ولد الأديب يوسف إدريس في قرية متواضعة في مركز "فاقوس" بمحافظة الشرقية في 14 مايو عام 1927م لأبوين مصريين، وكان كثير الترحال والتنقل مع أسرته منذ الطفولة المبكرة إلى المنصورة والزقازيق ودمياط وفاقوس؛ لذلك تلقي تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس تلك المناطق.
النشأة والتكوين
وفي أعقاب حصوله على الثانوية (البكالوريا) غادر محافظة الشرقية إلى مدينة القاهرة عام 1945م فالتحق بكلية الطب قصر العيني، وفي عام 1952م حصل الأديب الكبير يوسف إدريس على بكالوريوس الطب والجراحة العامة، ثم زاول مهنة الطب كونه طبيب امتياز في القصر العيني، وينتقل إلى وزارة الصحة مفتشًا لصحة الدرب الأحمر بالقاهرة.
كانت العقود الحضارية التي نشأ فيها وتكوّن فكر يوسف إدريس تسير في خط موازٍ مع الثورة، وهي سنة تخرج يوسف إدريس في كلية الطب غيرت الثورة معالم الحياة الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في مصر وأغلب البلدان المحيطة بها.
وعن تلك العقود عقود المخاض التي تترقب الثورة قال أحمد الزيات: "رباه لقد كانت مخاضًا دائما في مصر من عام 1919م إلى عام 1952م زمن ثورة يوليو 1952م، امتد بنا التيه في مجاهل الأرض إلى قرون، وفسد في نفوسنا الإيمان بالحياة حتى تحول إلى ظنون قمتي نخرج من التيه يا رباه خروج موسي، نتبوأ من صدر الحياة العاملة مكان محمد؟
اللهم إنا نسألك الراعي الذي يطرد الذئب والنظام الذي يجمع الحب والدليل الذي يحمل المصباح والقائد الذي يرفع العلم والأستاذ الذي يعلمنا الإبرة والمدفع، ونشفق النجم والحقل ونوفق بين الدين والدنياونوحد بين المنفعة العامة والمنفعة الخاصة..."(1).
المزج بين الطب والأدب
وفي أعقاب تخرج يوسف إدريس في كلية الطب تنازعه من تداخله كيفية المزج بين العمل طبيب وشغفة المولع بالأدب والفن، فقد كانت هوايته غلابة وعارمة إذ طوف على الدوريات بكتاباته الأولى في فنون القصة القصيرة والمقالة والخاطرة، ووجد مساحة للنشر تبشر بموهبته في روز اليوسف والشعب المصري والجمهورية وغيرها.
ومن المصادفات الجميلة أن يعضد بموهبته الدكتور حسين فوزي فيعجب به وينقله من عمله بوزارة الصحة إلى وزارة الثقافة، ومعه لقي يوسف إدريس المناخ المناسب للتعبير عن موهبته للأدب والفن، فيهجر الطب إلى ميدان الثقافة بمعناها الواسع.
وفي عام 1945 يؤلف الأديب الكبير أول مجموعة قصصية بعنوان "أرخص ليإلى" ويتبعها مسرحيات عدة أثرت الحياة الفكرية وهي: (جمهورية فرحات، ملك القطن، اللحظة الحرجة، ويواصل إبداعاته في القصة والمسرح مع أدب المقال، ويجد مكانته البارزة في صحيفة الأهرام القاهرية، فتكون منبرًا لفكره ومقالاته زهاء ثلاثين سنة إلى وفاته عام1991م.
يوسف إدريس بين الواقع والالتزام
على الرغم من تباين فكرة الالتزام مع من يعيش حياته وأسرته معه من قلمه أديبًا وصحافيًّا، فقد نجح الأديب الكبير يوسف إدريس في تطبيق دفاعه عن الشرائح الاجتماعية في معظم أدبه، دون المساس بالخط الفكري أو الالتزام لذي نهجه في فكرة تناغم الأدب مع الفكر، وقد حقق المعادلة الصعبة من أول مجموعة أصدرها إلى آخر مقال كتبة في صحيفة الأهرام لتتأمل انحيازه المبكر منذ عام 1954 للطبقات الدنيا والتزامه بقضاياه.
ففي قصة "أرخص ليإلى" التي تتسمي باسمها المجموعة يصور إدريس حياة طبقة من طبقات المجتمع يهتم بها اهتمامًا كبيرًا هي طبقة الفقراء المدقعين، والشخصية الرئيسة في القصة هي شخصية فلاح قروي اسمه عبد الكريم، حياته إلىومية تفيض بالبؤس والسأم والغصاصة والغضب من الأولاد الكثيرين الذين تمتلئ بهم الحارات في القرية، وله فيهم ستة يعولهم.
وذات مساء لم يجد كالعادة إلا القليل من الطعام، فأكل ثم شرب كوبًا من الشاي أعاد إليه حيويته، وكان يود أن يذهب إلى حانة أو إلى عزبة يحتفل أهلها بفرح، ولكن جيبه كان خاويًا، فأولاده الكثيرون يأكلون كل ما يكسبه، وهكذا أصبح عليه أن يقضي هذه الليلة في البيت أيضًا، يقضي ليلة رخيصة مع زوجته، وما مضت تسعة أشهر حتى كان الناس يهنئونه بمولود جديد(2).
والقراءة المتأنية للقصة بل المجموعة كلها، تعلن موهبة الكاتب الأديب يوسف إدريس وتميزه كونه رائدًا للواقعية في القصة القصيرة، فقد شغل القراء والنقاد منذ أن بدأ بنشر قصصه الهادفة سواء أكانت في الدوريات منذ عام 1950، وهي التي جمعها في مجموعته الشيقة "أرخص ليإلى" لقد أثارت الجدل والحوار والإطراء.
واستطاعت القصة القصيرة أن تؤثر في جيل كامل من شباب الأدباء على نحو ما كان يكتب يوسف إدريس بل في أبناء جيله أيضًا، ولقد تفاعل يوسف إدريس مع مشكلات مجتمعة.
ومن أول مجموعة يدق ناقوس التنوير، ويعكس الواقع ويدفع مشكلاته التقط يوسف المشكلة السكانية في أرخص ليإلى، ومن ثم راح يواجه المثلث الذي تجاهد ثورة يوليو في قطع أضلاعه الفقر والجهل والمرض، ولم ينفصل إدريس عن حركته المجتمع الناهض أو الحياة الواقعية التي بدأت من القاعدة القرية المصرية، يعكس أحوالها وناسها ومشكلاتها وأهمية التغيير نحو حياة أفضل.
آثار يوسف إدريس الإبداعية
أهم المجموعات القصصية
أرخص ليالى/البطل/اقتلها/ إلىس كذلك/ حادثة شرف/ أنا سلطان قانون الوجود/ آخر الدنيا/النداهة/ لغة الآي آي / بيت من لحم / العتب على النظر/ وغيرها من المجموعات القصصية التي أثرت الساحة الأدبية.
مسرحيات يوسف إدريس
ملك القطن/ المهزلة الأرضية / جمهورية فرحات/ المخططين / اللحظة الحرجة/ البهلوان / الفرافير / الجنس الثالث وغيرها منة المسرحيات.
الأدب الروائي
أما الأدب الروائي فكانت رواياته
قصة حب / رجال وثيران/ الحرام / خلو البال / العيب / البيضاء/ العسكري الأسود/ نيويورك.80
أما إبداعاتة في فن المقال
اكتشاف قارة / جبرتي الستينات/ عزف منفرد /فكر الفقر وفقر الفكر/ عن عمد اسمع تسمع/ شاهد عصره/ بصراحة غير مطلقة/ مفكرة د. يوسف إدريس ج1/ مفكرة د.يوسف إدريس ج2.
يوسف إدريس أدبياً
استطاع د.يوسف إدريس أن يكشف اللثام عن شخصيته وأدبه في الحوار الذي أجرته معه الأستاذة/نوال مصطفي، ويتضمن الحوار أسئلة رد علىها الأديب القدير يوسف إدريس، وقد نشر هذا الحوار كاملاً في كتاب نجوم وأفلام عام1995م.
من أقواله
قال يوسف إدريس في حواره:
"..قصتي مع الأدب بدأت منذ طفولتي، كتبت الشعر في مدينة دمياط، وفشلت بأن أكون شاعرًا بعدها عشقت المسرح، وفي كلية الطب قمت بنشاط أدبي ملحوظ بواسطة الصحافة وبعدها نمت موهبتي الأدبية فاتجهت للأدب القصصي "القصة القصيرة والرواية"، ثم تأثرت بأنطوان تشيكوف الذي تستطيع أن تستعيده كلما قرأته والكتابة عندي فعل، رسالتها الحقيقية إحداث تغيير إلى الأفضل والكتاب الحقيقي هو الذي يصبح الإنسان بعد قراءته مختلفًا عنه قبلها، الكتاب الذي يشحن الإنسان بشحنة ما تدفعه إلى فعل ما....".
"..أنا لا أستطيع أن أعيش دون المساهمة في التغيير الاجتماعي، لا يمكنني أن أغمض عيني عن مشكلات بلدي وقضايا مجتمعي ووطني، فالكتابة في نظري نوع من الكفاح، ولكن ليس كفاحًا مسلحًا هدفه التغيير بالقوة بل كفاحًا فكريًّا ومعاناة مستمرة.
علمتني تجربتي أنه لا يجب على الإنسان أن يحلم حلمًا مطلقًا بل عليه أن يتعامل مع الواقع حسب إمكانياته، ومن الواقع يختار أحلامه كانت لنا طموحات كبيرة، وأنا شخصيًّا خالٍ من العواطف، كنت أتصور أن مصر عام 1960ستكون جنة الله على الأرض، وسوف لا يكون فقر، وسوف تسود العدالة، أنا أؤمن دائمًا أن دور المبدع والمفكر والفنان في حياة مجتمعة هو دور تنويري حضاري، أما عن انفعالى أو وصفي بالثائر أو المتهور.
فأذكر هنا أن الكاتب الكبير "برناردو شو" قال ذات مرة: "جنوني أنني أري الأشياء على حقيقتها، في حين يراها الناس على غير حقيقتها، فمن منا المجنون يا تري؟! وهنا أعود إلى الفيلسوف الهولندي "اسبينوزا" الذي قال ذات مرة: "ويل للزمن الذي لا يشد فيه إلا قليلون، ولا أخفي عليك أن الرغبة في التغيير في مجتمع نام مهمة صعبة بل شديدة الصعوبة وفلسفة ما أكتب ليس التعبير عن نفسي، وإنما وعي الإنسان بالكتابة من الناس وإلىهم".
قراءة فاحصة في أعمال يوسف إدريس
يفسر بعض النقاد المتخصصين أعمال الكاتب الكبير يوسف إدريس تفسيرًا ناقدًا، ومنهم الدكتور/مصطفي ماهر في كتابه المميز الأدب المصري الحديث، وقد أطرأ بعض النقد عن قصة يوسف إدريس وهي قصة "فيينا 1960".
يقول في كتابة: ".. يلعب الدافع الجنسي دورًا حاسمًا كما الحال في قصة "بيت من لحم " مصطفي زوج وأب لبنت عمرها سنة، وهو موظف في وزارة التجارة يقوم بحكم عمله برحلة إلى أوروبا ويحس وهو في هذه الرحلة برغبته في أن يقوم بعلاقة جنسية مع امرأة أوروبية مثقفة، ولكنة لا يوفق إلى ذلك في البداية.
ثم ينجح في فيينا حيث تصطحبه إلى بيتها امرأة أنيقة أم لثلاثة أولاد، يقوم زوجها برحلة عمل، وعلى الرغم من أن المرأة تهتم به اهتمامه بها، لأنه يغريها فيه سماته الأجنبية لكنه يتردد؛ لأن البيت يبين له بوضوح أنه يقيم علاقة بامرأة متزوجة، فلم يكن في وضع كوضع البنات في قصة "بيت من لحم" حيث البيئة العمياء، كانت دلائل الحياة العائلية تتطلع إليه من كل جانب، وإذا كان قد حقق ما كان يصبو إلىه منذ البداية، فإنما حققه مستعينًا بخداع نفسه فقد صور لنفسه إنه مع زوجته(3).
هذا الاعتراف بما هو قائم شيء لم يفعله يوسف إدريس من قبل في الأعمال حللناها، وعلى هذا فإن قصة "فيينا 1960" تشير إلى الأرجح إلى تحول شخصي لدي يوسف إدريس(4).
رواية (العيب)
وفي استقراء الناقد لرواية "العيب" يصل بالتأويل إلى سبرعلاقة الزمان والمكان والمحتوي وعلاقات شخصيات الرواية بعضها البعض فيذكر:
".. في عام 1962 رواية "العيب" التي فسر فيها المضمون "العصراني الجديد " تفسيرًا متشائمًا كل التشاؤم.
تدور الرواية الهادفة حول موظفة تؤدي عملها بكل أمانة وتعاقب مرؤوسيها الذين يقبلون الرشاوى ويزورون، كذلك ترفض محاولات أحد الزملاء التقرب إلىها؛ لأنها تعرف أنه متورط في قضية رشوة، هكذا تتصرف على الرغم من أنها بحاجة إلى زيادة دخلها، ويموت أبوها فيصبح عليها أن تعول أمرها وأخاها الصغير، وهو ما يتجاوز مرتبها فهي لا تتمكن من دفع المصروفات المدرسية لأخيها الصغير.
وتنظر إلى سلوكها نظرة جديدة، وإنها تحس بأنها مسئولة عما جري لأخيها؛ لأنها تسلك هذا المسلك وتقرر أنها ليست أفضل من كل الذين احتقرتهم، بل لعلها تكون أسوأ منهم، فهؤلاء يقبلون الرشوة؛ لأن عليهم أن يساعدوا أقاربهم، وترى الموظفة أن التزامها الأخلاقي لم يعد له معني، فتقبل رشوة لقاء تزوير وثيقة وعندما يدعوها زميلها اللحوح لتخرج معه تقبل الدعوي.."(5).
ويفسر الأستاذ / حسين عيد الصراع المتنوع بين الشخصيات في قصص يوسف إدريس بدءًا من الفرد مواجها ذاته أو مواجهًا فردًا آخر في بناء فني متمايز مطعم بـالأسطورة تارة والخيال الفني المبتكر تارة ثانية، فيذكر في قصة "التمرين الأول" من مجموعة "إلىس كذلك".. تصور علاقة مصطنعة بين مدرس تربية رياضية قوي الجسم ضخم الجثة، وتلاميذ أحد الفصول يجبرهم فيها بقوة سلطته على أداء التمارين وحين يتغير بمدرس آخر (الوجه المضاد له) يكون أساس العلاقة مع التلميذ ديمقراطيًّا، وعندئذ يقبل التلاميذ على التمارين بنشاط وقد دب بينهم روح التنافس.
المعالجة هنا فيها تستطيع أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية فعلى الرغم من صحتها لا تحس فيها دبيب الحياة البسيطة التلقائية.
قصة "في الليل"
بدأ الوجه المقابل الطبيعي الرائع لما سبق في قصة "في الليل" مجموعة "أرخص ليإلى" هنا تجمع لعمال الريف في الليل بعد كد وتعب النهار، وما كان الليل جميلًا لما فيه من سكون، وإنما كان جميلًا؛ لأنه ليس فيه عمل ولأن فيه راحة وهدوء؛ لأنهم لا يستطيعون فيه الحديث، ويحسون إذ جلسوا واستراحوا وتسامروا أنهم كسائر البشر، ولكنهم يشعرون بغياب "عوف" الذي يترقبون ظهوره.
أما مشاعرهم تجاه عوف فكانت "كلهم أجمع على حبه رغم أنمه أفقر رجل في القرية وعلى الرغم من حياتهم الجدباء والصعبة، فلا يستطيع الحب أن يجد له مكاناً فيها ولا يستطيعون العيش إلا إذا كرهوا وحقدوا وتخاطفوا كانوا، ككل من في القرية يودون الحياة وحياة هناك إلا بالصراع ولا بقاء إلا للأقوى(6).
وللناقد رأي ثان مع قصة يوسف إدريس (سره الباتع من بين مجموعة حادثة شرف).
فيقول عن بناء القصة
"بناء القصة هنا بناء مركب يتكون من مرحلتين: رحلة الراوي الباحث عن اليقين" عن سر الإيمان المطلق الذي تتوارثه الأجيال لمقام السلطان حامد المقام من الحجر الذي يتبركون به ويوقدون له الشموع" هي رحلة حياة بدأها الراوي من الرفض الكامل إلى الإيمان الكامل. الرحلة الأخرى الموازية هي رحلة السلطان حامد من رجل عادي إلى رجل أسطوري قائد.
ففي مواجهة قوة أجنبية طاغية يظهر معدن الرجال، فإذا يصدي لها أحد فهو البطل الزعيم الذي خرج من بين الجماهير، لتلتف حوله الجماهير لصدقه وإخلاصه وتفانيه وتضحية بكل غال في سبيل القضية، فإذا سقط في ساحة الوعي صار أسطورة تتناقلها الأجيال بحب وتقديس"(7).
ويذهب د/ أحمد زلط إلى أن يوسف إدريس "لم يعط ظهره للسياسة وإن كانت وسيلته بحكم الزمن والنضج والقراءة وإيقاع الحياة حوله تأخذ في كل مرحلة شكلًا معينًا من التعبير قد يكون قفزة إلى نوع جديد من القصة إلى الرواية ومن هذه إلى المسرح، ومن المسرح إلى المقال، وقد يكون جديدًا في تقنية أي نوع منها"(8).
والتنوع التعبيري عند إدريس كأطر للتنوير والإيقاظ والتغيير، فجرّب في أنواع عدة، ووقف عند المسرح يسقط عليه رموزه، ومسرحيات يوسف ادر يس من بين أهم مقاصدها الأبعاد السياسية، وكيف تصل إلى الناس بطرائق فنية ومنه يقول د.الطاهر مكي:
"موضوع مسرحية الفرافير كيف يجب أن يحكم الناس أنفسهم، وكيف تكون العلاقة بين الأفراد والجماعات والدول؟ وعرض لهذه القضايا الجادة والخطيرة ببناء يجمع بين الجدية والترف، ويعتمد على الموروث الشعبي الفكاهي في مجموعة من المتناقضات تفجر الضحك العميق، وتجعل من التهريج فنًا يعلم، ولما كانت التقاليد الشعبية البسيطة والساذجة لا تستخدم المرأة في مسرحها، فإن يوسف إدريس لم يهمل هذه اللفتة أيضًا إيغالًا في شعبية عمله فجعل أحد الرجال يقوم فيها بدور امرأة.
وإذا كانت الفرافير تمس السياسة على استحياء فإن مسرحية البهلوان سياسية على نحو واضح، ولكي يحمي نفسه صدرها بمقولة ظاهرة تثبت ما يريد أن يعمقه في وجدان القارئ عن طريق النفي يقول: "أي تشابه بين الشخصيات المسرحية وأحداثها وبين الواقع هو من قبيل الصدفة المحضة؛ إذ إن واقعنا الحالي يفوق كل خيال" وهي تصور عالم الصحافة في تلك الأيام (9).
ويرى د/ أحمد زلط في المسرحيات الأولي لإدريس النواة الأولي للتجريب أو الدخول بحذر إلى عالم الأدب المسرحي أو فنه، لكنه مع مسرحياته الأخيرة في المخططين أو البهلوان قد فطن إلى بديع الدراما وصداها فهو في البهلوان: لا يزال كاتبًا سياسيًا يتابع أفكاره ويلح علىها، وهو لا يزال يكتب المسرح الفكري الذي بدأ به.
ولكنه هنا يحاول استغلال عناصر العرض الممكنة مثل هذه النصوص التعبيرية ليس عن طريق الدراسة التقليدية، ولكن عن طريق الخلط بين الأنواع فهو هنا تجريدي أحيانًا وتجريبي أحيانًا وملحمي أحيانًا أخرى في إطار واقعي خادع.
ومصدر الخداع أن الشخصيات المحورية التي تكتسي أمامنا لحمًا ودمًا هي في الواقع منابر للأفكار، وهي رموز أكثر منها أشخاص، ومع ذلك فإنه بالتعاون مع المخرج ينجح في إيجاد الحالة المسرحية التي كان دائمًا يدعو إليها.
ولم يفارقني طيلة العرض الإحساس بأن يوسف إدريس الكاتب المسرحي هو أيضًا روح هذا العصر وممثل لروح الجيل، فهو يخاطب الآن جمهورًا مختلفًا، وهو ينقل إليهم رؤى استمدها من العمل في الصحافة عشر سنوات في الأقل لم يكتب فيها الأدب بل اقتصر تقريبًا على كتابة المقال السياسي والمقال الاجتماعي، وهو مشغول بالقضايا نفسها التي أرقته طيلة عمره، ولكنه قادر على ابتداع شكل جديد بغية الإتيان بحالة مسرحية جديدة.
نظرة نقدية على قصة نظرة للأديب يوسف إدريس
*قدرة الكاتب على التركيز والتكثيف.
*براعة الكاتب في السرد والوصف الموجز
*الكشف عن مكنون الشخصية (قهر الخادمة في أقصر كلمة...ستى)
*اختزال الزمان والمكان والفكرة والشخصيات في اللحظة وموقف النظرة.
*نجاح الكاتب في الوصف النفسي والجسمي للطفلة الخادمة موازنة مع الأطفال الآخرين الذين يعيشون حياتهم في الركض واللعب.
*التشويق الدقيق على لسان القاص.
* اللغة دالة موحية محددة.
*جاء عنوان القصة متماشياً مع أحداث القصة.
ومع أن القصة المشار إليها سلفًا تخلو من الحوار، فإن الكاتب الكبير يوسف إدريس الرائد في مجاله أودع فكرته في ثنايا قصة قصيرة جدًا دون الخوض في تفاصيل أو خطابية مطولة بل طرح ما أراد أن تقوله في شكل فني محكم.
أما في المقال السياسي أو الاجتماعي
فهي الأطر الرئيسة التي كتب فيها د/ يوسف إدريس فإنها كانت تنفيسًا انفعاليًّا وأداة توصيل رائعة بينة وبين المتلقي من الجمهور العام أولًا، ثم الجمهور الأدبي ثانيًا؛ لأن واقعية الكاتب والتزامه بقضايا وطنه ومجتمعه وأمته ظلت في الصدارة منذ كتب قصصه الأولي في مطلع الخمسينيات إلى أن لقي ربه عام 1991.
وظلت العقود الأربعة الممثلة لحياته الأدبية والفكرية خير ممثل لكتاب الواقعية والالتزام الصارم بالدفاع عن قضايا طوائف المجتمع البسيطة (10).
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.