«نحن لا نختار كما نظن، بل نُقاد كما نحب، ونُحب ما لم نختر.. فالحرية أحيانًا مجرد قفص مُذهَّب اسمه الإرادة».
في كل صباح، نستيقظ على وهمٍ لطيفٍ اسمه «الاختيار». نُقنع أنفسنا أن لنا يدًا في كل ما يحدث، نرتدي قميص القرار بثقة الملوك، ونمضي في دروبٍ نظن أننا رسمناها، في حين ثمة ابتسامة ساخرة تتكون في الظلال… ابتسامة القدر.
منذ ولادتنا، و«الاختيار» يلوِّح لنا كصديق قديم، يهمس في آذاننا: اختر مهنتك، شريكك، أفكارك، مصيرك. لكن، هل اخترنا شكل وجوهنا؟ رائحة طفولتنا؟ اللغة التي ننطق بها؟ الأبواب التي طُرِقَت؟
وهل اختيارك بين طريقين، قُدِّما لك سلفًا، هو حرية؟ أم أنك اخترت بين قيدين مختلفي الشكل فقط؟
الإنسان كائن يرفض أن يكون دمية، ولهذا اخترع وهم الاختيار، كما يخترع الطفل صديقًا خياليًا ليشعر بالأمان.
نعيش في عالم مبرمج على الاحتمالات، لكننا لا نعلم هل الاحتمال نابع منَّا، أم مفروض علينا منذ الأزل.
أليست كل اختياراتنا مبنية على رغبات لم نخترها، وظروف لم نصنعها، وذكريات لم نتحكم في صناعتها؟
فما الفرق إذًا بين من اختار لأنه يريد، ومن يريد لأنه مُجبر على ما يشتهي؟
أين تنتهي حدود الإرادة، وأين تبدأ خيوط التسيير؟
بل، هل نحن «نختار» أم «ننفِّذ» ما خُطَّ لنا بطريقة توحي لنا أننا أحرار؟
وهم الاختيار ليس ضعفًا في وعينا، بل قد يكون آلية دفاعية كي لا ينهار نظامنا النفسي أمام فوضى التسيير الكامل.
أن تتوهم أنك تختار، هو أن تمنح لنفسك لحظة كرامة… لحظة وهم نبيل يحميك من الحقيقة المرعبة: أنك قد تكون لست سوى ظل في مسرح كتبه آخر، وأنت تؤدي فيه الدور الذي لم تطلبه.
لكن، هل هذا سيئ؟
ربما لا.
ربما يكفي أن نعيش كأننا أحرار، لنكون أحياء بما يكفي.
القدر، يا صديقي، ليس دائمًا سجَّانًا.
وأحيانًا، يكون الوهم ذاته هو الباب الذي نطل منه على المعنى.
الدماغ… صانع القرار قبل وعيك
في سبعينيات القرن الماضي، أجرى العالم «بنجامين ليبيت» تجربة ستقلب نظرتنا للحرية رأسًا على عقب. وضع أقطابًا على رؤوس متطوعين وطلب منهم تحريك أصابعهم وقتما يشاؤون.
المفاجأة؟ الإشارات العصبية التي تُعِدّ للحركة كانت تبدأ قبل أن يُدرك الشخص أنه قرر التحرك.
بمعنى آخر: دماغك قرر قبل أن تعي أنك قررت.
تكررت هذه التجارب بأشكال متعددة لاحقًا، وأثبتت أمرًا مرعبًا: أن «الاختيار» قد يكون نتيجة لمعالجة لا شعورية سابقة، والوعي لا يأتي إلا ليعلن القرار بعد أن تم اتخاذه فعلًا.
الدماغ هو المخرج… والوعي مجرد ممثل يقرأ سطورًا كُتبت له.
فهل الاختيار حينها واقع؟ أم مسرحية بيولوجية متقنة الإخراج؟
بين سبينوزا وسارتر… مفترق الحرية
في الفلسفة، نجد أنفسنا أمام قطبين متضادين: باروخ سبينوزا يرى أن كل ما يحدث هو نتيجة حتمية لطبيعة الأشياء. كل سبب يولد نتيجة، وكل نتيجة تصبح سببًا لما بعدها.
الحرية، حسب سبينوزا، ليست في «الفعل العشوائي»، بل في فهم الضرورة. أن تفهم أنك جزء من نظام كوني محكم، فذلك هو نوع من أنواع الحرية العقلية.
في الجهة الأخرى، يقف جان بول سارتر صارخًا: «الإنسان محكوم عليه بالحرية!». يرى أن الإنسان يولد بلا جوهر، ويصنع نفسه باختياراته. وإن تهرَّب من تلك الاختيارات، فهو يمارس «سوء نية» هروبًا من مسؤولية حريته.
لكن، بين سبينوزا وسارتر، يعيش الإنسان المعاصر مشتتًا: عقله يقول له إن كل شيء مبرمج، ووجدانه يصرخ إنه حر.
فهل نحن سجناء حرية متخيلة؟ أم خالقو مصايِر حقيقية؟
الحرية التي نحتاجها… حتى لو لم تكن حقيقية
ربما لن نعرف أبدًا إن كنا أحرارًا حقًا، أم أننا نُقاد بلطف داخل وهمٍ محبوك بعناية.
ربما نحن مزيج من كيمياء تتفاعل، وماضٍ لم نختره، ولاوعي يتحكم في مساراتنا، وكل ما نظنه اختيارًا ليس إلا توقيعًا على قرار لم نكتبه نحن.
لكن، على الرغْم من كل ذلك، نحن نعيش.
نحزن ونفرح، نقرر ونندم، نُحب ونغادر، ونكتب هذه الأسطر وكأننا نملك زمام وجودنا.
وإذا كان «الاختيار» وهمًا، فهو أجمل الأوهام… لأنه يمنحنا شرف المحاولة، لذة التمرد، وأمل التغيير.
نختار لا لأننا نملك القرار، بل لأننا لا نحتمل العيش كائنات خرساء تمضي بلا معنى.
الحرية، في جوهرها، قد لا تكون «واقعًا موضوعيًا»، بل تجربة داخلية، واحتياج روحي.. هي البريق الذي يجعلنا نستمر، حتى ولو كنا نخطو في نفقٍ رسمه القدر.
وفي النهاية، قد لا يكون السؤال هو: «هل نختار؟»، بل: «هل نريد أن نعيش كما لو كنا نختار؟». وهذا، في ذاته… اختيار.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.