وهم الإرادة ..أنت لا تمتلك عقلك طيلة الوقت

توجد تأثيرات نفسية تحكم سلوكنا وتؤثر في دماغنا معظم الوقت. هذه التأثيرات تكوِّن صورنا الذهنية عن الأحداث والأشخاص، وغالبًا ما تؤثر في مشاعرنا وانفعالاتنا، وقد تكون السبب في إخفاقاتنا أو نجاحاتنا.

بعض هذه التأثيرات لها عواقب سلبية على تكويننا النفسي وصورنا الذهنية، في حين يمكن أن يكون بعض آخر له عائد إيجابي.

من المهم أن ندرك أن الظاهرة النفسية نفسها قد تعود بالسلب في أحيان وبالإيجاب في أحيان أخرى.

اقرأ أيضًا ماهية المتعة ومتعة الوعي.. معلومات لا تعرفها من قبل

كيف يتأثر وعيك بمشاعرك؟

الإلمام بفكرة وجود مثل هذه التأثيرات النفسية يجعلنا أكثر وعيًا بأننا قد نكون ضحايا لبعضها.

وعندما ندرك أن مشاعرنا وانفعالاتنا أو حالتنا الذهنية الحالية قد تكون نتيجة لتأثرنا بهذه الظواهر، فإن ذلك يمنحنا وعيًا وإدراكًا نفسيًّا لذاتنا.

 فالوعي بالذات هو كخروجك من جسدك والنظر إلى نفسك من الخارج؛ ما يمكنك من تحليل سلوكك وتوقع تصرفاتك المستقبلية وفهم سلوكياتك وانفعالاتك السابقة.

مثال توضيحي

لنفترض أننا في نقاش في موضوع ما. أنت تبدي رأيك وتحاول إقناعي بوجهة نظرك، في حين أنا أعترض على فكرتك وأدافع عن رأي مخالف.

قد تبدو مقتنعًا تمامًا بآرائك، حتى عندما تحاول فهم وجهة نظري، ولكنك تفشل في ذلك. في هذه الحالة، قد تزداد قناعتك برأيك، ما يجعلك تدافع عنه بشراسة أكبر.

لنأخذ في الاعتبار أنه إذا كنت أنا على حق، وكانت الحقائق تدعم وجهة نظري، وأنت غير قادر على رؤيتها بسبب تأثرات خارجية أو ظروف محيطة.

في هذه الحالة، إدراكك لعجزك عن تكوين رؤية صحيحة بسبب تلك التأثيرات هو في حد ذاته نوع من الوعي.

اقرأ أيضًا تعرف على مفهوم الوعي وتأثر عقل الإنسان به

إدراك الذات

القدرة على التعرف على العوامل المؤثرة في حالتك الذهنية، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، تمنحك وعيًا أكبر.

حتى لو لم تكن على دراية بهذه العوامل، فإن إدراك أنك قد تتأثر بها، وكيفية تشكيل هذه العوامل لأفكارك ومبادئك، هو جزء من الوعي الحقيقي.

الفكرة لا تنطبق فقط على النقاشات، بل تشمل حياتك عامةً. إذا كانت آراؤك مبنية على عدم الوعي بالذات وفهم الظروف المحيطة بك، فإنك بحاجة إلى إعادة النظر فيها.

فالعقل الواعي يستطيع تحديد موقفه وحالته الذهنية بناءً على الظروف التي قد يواجهها، وليس فقط بناءً على حالته الراهنة.

مثال إضافي

عند سؤالك: "هل يمكنك قتل شخص ما؟"، قد تكون إجابتك ليست بالنفي المطلق.

فكل شخص يمكنه القتل إذا وُضع في الظروف المناسبة. الفرق هنا يكمن بين الرغبة في الفعل (مثل القتل) وإمكانية القيام به.

رغبتك في فعل شيء ما تحددها مبادئك ومعتقداتك، ولكن قدرة القيام بذلك تتأثر بالعوامل المحيطة بك.

إن رغبتك في الفعل تتعلق بمعاييرك ومبادئك الحالية، في حين قدرتك على القيام بهذا الفعل تتحدد بناءً على الظروف المحيطة.

في النهاية، الفهم العميق لهذه الديناميكيات يمكن أن يساعدك في اتخاذ قرارات أكثر وعيًا في حياتك.

اقرأ أيضًا هل دراسة الوعي والتنمية البشرية مجدية؟

تأثير داننج كروجر (Dunning Kruger Effect)

في عام 1995، وقعت حادثة سرقة لأحد البنوك في وضح النهار. قام السارق بملء حقيبتين بالنقود من خزينة البنك، وبعد انتهائه شرع في الهروب، وفي الحقيقة كانت خطة هروبه محيِّرة إلى حد مريب؛ لأنه لم يكن يمتلك خطة من الأصل.

بعد انتهاء عملية السرقة، خرج السارق من الباب الأمامي للمبنى وبدأ يركض وسط الحشود. وفي التوقيت ذاته كانت كاميرات الأمن والمرور تسجل الحدث.

وعند ملاحظته الكاميرات المحيطة بالمبنى، بدأ ينظر إليها بثقة واستهزاء، ويبتسم.

بطبيعة الحال، قد تتوقع نهاية غير متوقعة للقصة، ولكن...

بعد ظهيرة ذلك اليوم وبحلول المساء، ألقت الشرطة القبض على السارق.

الغريب في القصة (وهو ما جعلني أبدأ بها مدخلًا لشرح التأثير النفسي المتناول الآن) هو رد فعل السارق عندما تم القبض عليه؛ إذ كان يسيطر عليه الذهول لدرجة تجعلك تصدق أنه فقد ذاكرته ونسي أحداث اليوم.

لكنه لم يفقدها، بل قال: "but I wore the juice"، أي "لكنني وضعت العصير".

قام هذا الشخص بطلاء وجهه بعصير الليمون، معتقدًا أن التركيب الكيميائي لعصارة الليمون سيجعله غير مرئي، وكان يؤمن بذلك تمامًا.

وكانت حيرته في كيفية القبض عليه صادقة، فهو فعليًّا لم يستوعب كيف رأوه!

لم يُصنف المجرم على أنه مجنون أو مختل، بل نُسبت السرقة إلى معتقد خاطئ. وقد تم تحويله إلى اختصاصي نفسي لدراسة الحالة، وهو الدكتور داننج كروجر. وحينئذ جاءت تسمية "تأثير داننج كروجر".

تصف هذه الظاهرة أنه كلما قلَّ علم ووعي الشخص (عمومًا أو في مجال محدد)، زادت ثقته بنفسه وبمعتقداته، وآمن بها على نحو أعمق، ما يجعل من الصعب عليه تقبل إمكانية كونه على خطأ.

والعكس صحيح؛ فالأشخاص الأكثر وعيًا وإلمامًا بالمعرفة غالبًا ما يقلِّلون تقديرهم لذاتهم.

أجرى كروجر تجربة لدراسة هذه الظاهرة على نحو أعمق على مجموعات من الطلبة من جامعات مختلفة.

تم اختبار الطلاب في ثلاثة محاور: الكتابة بالقواعد الصحيحة، والتحليل المنطقي، والفكاهة. بعد ذلك، تم توزيع استبانة على الطلاب لتسجيل توقعاتهم وتقييمهم لأنفسهم.

جاءت النتائج على النحو التالي: سجل الطلاب أصحاب التقييمات الذاتية المرتفعة أدنى النتائج في الاختبارات الثلاثة، في حين سجل الطلاب أصحاب التقييمات الذاتية المنخفضة نتائج أعلى.

خلاصة القول: كلما زاد وعي الإنسان بشيء ما، قلَّ يقينه بقدراته فيه، والعكس صحيح. إدراكنا لهذه القاعدة البسيطة يجنبنا أضرار جهلنا، فإدراكك لإمكانية امتلاكك لثقة زائفة أو تقييم أعلى من التقييم الحقيقي لنفسك يجعلك تعيد النظر في كثير من الأمور.

اقرأ أيضًا مفهوم الوعي وعدم الوعي عند فرويد

الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias)

الانحياز التأكيدي هو ظاهرة نفسية توضح أن كل فرد يميل إلى تأكيد ما يرغب فيه. بمعنى أنني وأنت نميل دائمًا لإظهار الحجج والتوكيدات (حتى غير المنطقية منها) لتأكيد ما نرغب به أن يكون الصواب، أو ما نعتقده أو نؤمن به.

بمعنى آخر، نحن نميل دائمًا إلى تفسير وتبرير ميولنا الشخصية وإثبات أن الحق في ما نعتقده.

في عام 2004، أجرى مجموعة من العلماء تجربة خلال الانتخابات الأمريكية بين جون كيري وجورج بوش.

كانت التجربة حول ظاهرة الانحياز التأكيدي، وتمت على مجموعتين من الناس: المجموعة الأولى كانت من مؤيدي جون كيري، في حين كانت الثانية من مؤيدي جورج بوش. ع

ُرضت للمجموعة الأولى مجموعة من الأخبار والأفكار الكاذبة ذات المنطق الضعيف عن جون كيري، في حين عُرضت للمجموعة الثانية أخبار زائفة وأفكار غير منطقية عن جورج بوش.

وُضِع المشاركون في التجربة على جهاز (fMRI) لقياس نشاط أدمغتهم في أثناء مهاجمة مرشحهم والتشكيك في مصداقيته أو نزاهته.

كانت النتيجة هي ظهور نشاط في المناطق المسؤولة عن العاطفة في المخ، وليس في المناطق المسؤولة عن التفكير والتحليل المنطقي.

أي عند تعرضنا للهجوم في آرائنا أو معتقداتنا، فإن الهيمنة تكون للعاطفة، ما يجعل حججنا وتوكيداتنا قائمة على العاطفة وليس على المنطق الكامل.

فيمكن أن تكون رؤيتنا غير منطقية، ولكن تأثير العاطفة يمنع إدراك الثغرات في أفكارنا، ويجعلنا تحت تأثير الانحياز التأكيدي.

اقرأ أيضًا تطوير الوعي الذاتي.. أنت الدواء والداء لنفسك

تأثير الموضع التسلسلي  (Serial Position Effect)

Recency – Primary Effect

نحن نسترجع ما يأتي في بداية الأمر وما يأتي في نهايته، في حين يكون ما في المنتصف ضعيف التذكر.

في تجربة قام بها عالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس، تم توضيح ميل الفرد لتذكر بداية الأحداث ونهايتها، وضعف قدرته على تذكر ما كان بينهما.

كانت التجربة هي عرض قائمة بكلمات وأسماء معينة على مجموعة من الأشخاص، وبعد انتهاء العرض، طُلب منهم استرجاع القائمة المعروضة عليهم.

وجد أن الأغلبية العظمى من الناس بدؤوا باسترجاع آخر اسم في القائمة (ما يعرف باسم recency effect). وهو يوضح أن الدماغ يميل إلى تذكر الأحداث أو الأسماء أو الصور الأخيرة على نحو أفضل.

ومن بين بقية الأسماء، كانت قدرة الأشخاص على استرجاع الأسماء الأولى أفضل من استرجاع الأسماء في منتصف القائمة (وهذا ما يُعرف بـ(primacy effect).

التفسير الأكثر شيوعًا لهذه الظاهرة هو أن الدماغ يستهلك النصيب الأكبر من الطاقة في معالجة بداية الحدث ونهايته، وخاصة البداية.

لذا، فإن انتقال المعلومات إلى الذاكرة طويلة المدى يكون أسهل من انتقال المعلومات الأخرى.

وحينئذ، يأتي إدراكنا لضعف قدرة دماغنا على معالجة منتصف الأحداث، ما يؤدي إلى تكوين صور ذهنية تعتمد أساسًا على بداية الأمور ونهايتها.

فوعيك بإمكانية تفويت عقلك لبعض التفاصيل -ما يؤدي إلى تكوين فكرة غير كاملة أو صورة خاطئة للحدث أو المحيط- يساعد في تطوير وعيك الذاتي.

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة