إذا قدر لك أن تكون ذا موهبة، تارة تنقذ بها الآلاف من الأرواح، وتارة أخرى تضع روحك على محك من الهاوية، هل ستغامر وتستعملها لتنجي المئات من الأشخاص؟ أم أنك ستتخذ قرارا آخر لتحافظ على حياتك؟ صاحب حكايتنا اليوم سيخبرنا ماذا فعل؟
هذه حكاية جديدة من جوك حيث المعرفة متعة..
اقرأ أيضاً من 30 جنيها إلى 450 مليون دولار.. قصة اللوحة الأغلى في التاريخ
آخر عملية تزوير للرسام أدولفو كامينسكي
إنه عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعين، سيقرر الرسام والمصور الأرجنتيني أدولفو كامينسكي أن يمسك قلمه للمرة الأخيرة، نعم كما سمعت، إنه القلم لا الفرشاة ولا حتى الكاميرا، بالأحرى ستكون هذه المرة آخر عملية تزوير سينهي بها حياته بعد مسيرة لموهبته التي غيرت حياة الآلاف من البشر.
بداية.. ترجع أصول أدولفو كامينسكى لعائلة روسية تعتنق اليهودية، وفي رحاب الأرجنتين، ولد عام ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين، لتهاجر أسرته إلى فرنسا.
هناك اضطر الفتى إلى أن يعمل في صباغة الملابس، لمساعدة والده بعد أن ترك المدرسة، ومن هنا ستنشأ علاقته الودية بالكيمياء التي ستقلب حياته رأسا على عقب.
مرت الأيام وقرعت طبول الحرب العالمية الثانية، ليجد الفرنسيون الجيش الألماني فوق رؤوسهم كالطير، حتى بيت الفتى أدولفو وقع فريسة في يد الاحتلال النازي.
ليأتي عام ألف وتسعمئة وثلاثة وأربعين، ويجد الفتى نفسه هو وعائلته في معسكر مخصص لليهود، ليمكثوا فيه ثلاثة أشهر، يعانون الجوع والبرد.
أتدري؟ كانت عائلة أدولفو محظوظة للغاية، لقد نجت من القتل الذي لحق بالآخرين، فالقنصلية الأرجنتينية حلت الأمر مع فرنسا، فوجد الأب نفسه مع أسرته خارج المعتقل، ليقرر الذهاب إلى باريس.
دعني أقص عليك أمرا هنا، كانت هوية هذه العائلة اليهودية تتسبب لهم في كثير من المشكلات مع الجيش النازي، ومن ثم يقرر الأب الحصول على أوراق تحميهم، ولم لا يقتنون هويات زائفة تخلصهم من هذا العدوان المرير؟ وهنا سيبدأ كل شيء.
كانت هناك خلية سرية يهودية بأروقة باريس تعمل على تزوير الأوراق.
اقرأ أيضاً زهدي العدوي الرسام الجريء
بداية أدولفو في التزوير
هنا قرر أدولفو الوصول إليهم لاستلام هوياتهم الجديدة بناء على طلب والده، لكن هذا الفتى سيستغل كل شيء ويخبر من يعمل هناك أنه قادر على إزالة أي نوع من الأحبار، ليعرض أحد العاملين في هذا المختبر السري على الفتى العمل معهم في تزوير الأوراق..
بدون تفكير.. سرعان ما وافق أدولفو على العمل، ليبدأ مهمته في اختبار مشكلات المختبر السري ويعاونهم على حلها، ومحاولة إيجاد كل ما تتطلبه عملية التزوير من الحبر والماكينات الخاصة بذلك.
سرعان ما أبهر الفتى من حوله وترأس قسم التزوير في المقاومة الفرنسية، وأخذ يزور الأوراق لكل اليهود في كل مناطق نفوذ النازيين.
لك أن تعرف أن أنامل أدولفو أنقذت نحو عشرة آلاف روح كانت معرضة للقتل والاعتقال، مستمرا في عمله دون مقابل حتى تضع الحرب أوزارها.
أتدري؟ كانت هناك المئات من الوثائق أمام أدولفو لتزويرها في ثلاثة أيام، فكان ينجز نحو ثلاثين وثيقة كل ساعة، ما يعني أن الساعة التي كان ينامها تساوي حياة ثلاثين شخصا بريئا.
هذا الفتى كان يزور كل شيء.. بطاقات شخصية، بطاقات تموينية، شهادات ميلاد، ليساعد في نهاية المطاف آلافا من اليهود على السفر إلى فلسطين في مرحلة الانتداب البريطاني.
اقرأ أيضاً فن النحت والرسم لدى الفولاني.. لمحات عن ماضيه وحاضره
وقف أدولفو للتزوير مع اليهود لحماية الفلسطنيين
ستندهش هنا، أتدري؟ حينما علم أدولفو بإنشاء الكيان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، قرر وقف مساعدة اليهود على هجرتهم إلى فلسطين، فكانت قضيته العدالة وإنقاذ الأبرياء، وليست على حساب شعب آخر.
مر الوقت سريعا، وضمته القوات الفرنسية المقاتلة عرفانا بدوره أيام الحرب، لكنه لم يلبث معهم طويلا، ليقرر الانسحاب من الخدمة مع اندلاع الحرب الهندوصينية الفرنسية، التي كانت فيها فرنسا تؤدي دور المحتل، ليدافع الرجل عن مبادئه مرة أخرى، فلا يريد ليديه المتلطختين بالحبر أن تتخضبا بدماء الأبرياء.
لك أن تتخيل أنه وقف ضد فرنسا، ليصل إلى الجزائر منضما إلى جبهة التحرير الوطني، وزور أوراقا للجزائريين، ومنح لقب المجاهد كامينسكي.. ليتزوج جزائرية ويستقر هناك بعد محاولات عدة لاغتياله من قبل الأعداء!
هل تعرف أن كف أدولفو المزورة الاستثنائية كان لها الفضل في إنقاذ الناس من الموت، بداية من أمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا في فترة الخمسينيات والستينيات؟ نعم لقد جند موهبته لخدمة المجندين الرافضين لأي حرب، فهؤلاء كلهم كانوا في حاجة إلى أوراق تنقذ رقابهم، فكانت قضية أدولفو هي العدالة أينما حلت أو ارتحلت رحل معها.
هل أدولفو مجرماً أم رجل يريد منح السلام؟
دعني أخبرك، رحلة هذا الرجل في التزوير، استمرت نحو سبعة وعشرين عاما، واضعا فيها رأسه على كفه، ولا يجد حيلة تحميه إلا مهنة التصوير والادعاء بأنه رسام، ليبرر وجود الصبغات والكيماويات في منزله..
كان أدولفو يتمنى كل مرة ينقذ فيها روحا بريئة، أن يمنح العالم ما كانت تمنحه له يداه.
ها هو عام ألفين وثلاثة وعشرين.. أسدل الستار على حياة المزور الشريف أدولفو كامينسكي بعمر سبعة وتسعين عاما.
والآن هل ترون أن كامينسكى كان مجرما؟ أم أنه كان رجلا يحاول منح السلام للعالم؟
إذا كنتم تعرفون مزورين مهرة خدموا الإنسانية كأدولفو، شاركونا من هم عبر التعليقات.. وإلى لقاء قريب مع جوك.. حيث المعرفة متعة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.