وحش التفاهة ونجوم الإسفاف

في كتابه "نظام التفاهة" يقول الفيلسوف الأمريكي "آلان دونو": "إن التافهين قد حسموا المعركة لمصلحتهم في هذه الأيام؛ فأصبح بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ، أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين".

نعم لقد تغير الزمن، ولم تعد تسود معايير القيم؛ وذلك لأن التافهين أمسكوا بزمام الفضاء الافتراضي، مسيطرين بكل تفاهتهم وفسادهم. فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وخُلقًا. إنه زمن الصعاليك الهابط، فكلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط، ازداد جماهيرية وشهرة. لقد أصبحت أغلب مواقع التواصل منصات عشوائية وورشًا لصناعة التفاهة، لا تخرج لنا أي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان "إلا ما ندر". 

ما أسباب انتشار التفاهة؟ 

إن تفشي هذه الظاهرة وسيطرة منظومة التفاهة يعود لأسباب عدة، منها آلية الوسائل المتاحة التي تمكِّن أي شخص -بغض النظر عن خلفيته المعرفية- من نشر أي محتوى بسهولة وسرعة؛ ما يفتح الباب أمام انتشار الأفكار السطحية والمعلومات المغلوطة.

وكذلك الرغبة في تحقيق الشهرة والانتشار السريع، التي دفعت كثيرين إلى سلوك أسرع الطرق إلى ذلك، وهو نشر المحتوى المثير للجدل، وتبني الإسفاف والإغراق العشوائي المفرغ من المعنى؛ ما خلق واقعًا تواصليًّا مربكًا. 

ولكن مَن يهتم؟ فالكل يبحث عن موطئ قدم في هذا العالم الذي يخضع لمعادلة أحد طرفيها التفاهة والآخر هو الشهرة، مهما كانت الوسيلة التي تؤدي إلى زيادة المتابعين والحصول على شهرة زائفة تخفي وراءها "عقولًا خاوية" وفكرًا غير متزن، فقد باتت "مهنة" إنتاج السخافات والتفاهات مربحة إلى ربحًا كبيرًا، وهذا يدفع البعض إلى التظاهر بالجنون أو البلاهة أو الفكاهة السخيفة، وهي السلعة التي تجتذب الآن جمهورًا كبيرًا، وخاصة في العالم العربي، لأن أغلب المشاهدين يدخلون من أجل الفكاهة والترفيه؛ كون هذه المنصات أصبحت مساحات راحة تجتذب الملايين، الذين يسعون لكسر روتين حياتهم اليومية، ويدخلون إليها بسهولة ومجانًا، وهذا يذكِّرني بمقولة "إذا رأيت منتجًا بلا مقابل فاعلم أنك أنت السلعة". 

أسباب انتشار التفاهة والأثر السلبي لها

صناعة التفاهة

إن نجوم التفاهة كُثر من حولنا، تجدهم في كل الزوايا المعتمة في العالم الافتراضي، يطلون علينا بسماجتهم من كل مكان، ويدخلون بيوتنا عنوة. نعم، ما يحدث حاليًا تعدى الحدود الطبيعية، وتحول الأمر إلى عملية ممنهجة لنشر التفاهة، وهذا حتمًا لا يعني أن الأمر عمل فردي بريء مطلقًا؛ فقد تعتزم جهات معينة تغذية هذا المستنقع بالابتذال لكي يزداد "الاستحمار" لدى أغلب مكونات المجتمع، إنها حرب معلنة ضد كل ما هو مفيد وهادف، خلفها أجندة لإلهاء الناس عن قضاياهم المهمة، وتهميش القيم الاجتماعية. 

حتى أصبحت التفاهة منتجًا رائجًا، وأسلوب حياة في عصر سطوة الانفجار الرقمي. فغدونا نعيش توجهًا يكاد يكون طبيعيًّا ينحدر بنا نحو التفاهة في كل شيء تقريبًا، حيث تم تنصيب الحمقى ملوكًا على عرش مستنقع السخافة.

الأثر السلبي للتفاهة

ومما لا يدركه بعض الناس، ولا يبالي به كثير من مستخدمي وسائل التواصل، هو مدى تأثير ما ينشرونه من محتوى على أنفسهم وعلى الآخرين الذي يسهم في انتشار الأفكار السلبية والتفاهة، وتدهور القيم والمبادئ الأخلاقية، ويشجع على انتشار السلوكيات السلبية والعنف.

وإضافة إلى ذلك، أسهمت الموجة العارمة من التفاهة في إفساد الذوق العام، واستلاب العقول الهشة وحجب الوعي الذاتي، وترقيق أخلاقيات الفرد المتفاعل مع المحتوى المعروض، وكذلك "تقزيم" المحتوى القيم، وتسطيح الفكر الهادف، وزعزعة القواعد الأخلاقية؛ ما خلق واقعًا التبست فيه المفاهيم والقيم والخطأ والصواب.

كيف نواجه التفاهة؟

إن ظاهرة التفاهة تمثل تهديدًا شديد الخطر؛ لما لها من دور في تضليل الرأي العام، وتقويض الثقة في الوسائل التي كان من المفترض أن تكون أدوات تساعد في نهضة الفرد والمجتمع عن طريق الوصول للمعلومة وتبادل الخبرات والنقاش الهادف. 

ولكن يمكننا مواجهتها عن طريق تضافر جهود الأفراد؛ للعمل على نشر الوعي بخطورة هذه الظاهرة، للحد من سيطرة التفاهة والتافهين على المجتمع، ودعم المحتوى الإيجابي والبنَّاء، وعلى المؤسسات أن تواجه هذا الظاهرة عبر قنواتها الرسمية ووسائلها الرقابية، فمستقبل مجتمعاتنا يعتمد على قدرتنا على بناء مجتمعات قائمة على المعرفة والاحترام المتبادل. 

فكل إنسان يفكر بوعي عليه ألا يضيع وقته وفكره في متابعة فضائح وسخافات، وألا يكون مسهمًا في تدني المستوى الثقافي. وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ". ونحن مستخدمو المواقع الاجتماعية علينا تجاهل هؤلاء الذين ينشرون التفاهة؛ لكيلا يزداد حجمهم، ويصبح الأقزام عمالقة ووحوشًا من ورق. 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة