كان الليل يرزح بثقله على المدينة العتيقة، كأن حجارتها تنوء بحمل الذكريات والآلام، تهمس بشكاوى قرونٍ من الخيبات والغزوات، شوارعها الضيقة التي كانت يومًا تضج بالحياة بدت كأشباح باهتة تحت ضوء القمر الحزين، وقف سليم عند نافذته، عيناه تتعلقان بالأفق البعيد حيث أضواء الصواريخ تخترق الظلام، وطائرات الحرب تمزّق سكون الليل كخناجر غادرة تغوص في قلب الأرض التي عشقها.
في الأسفل وسط الدمار الذي صار جزءًا من المشهد اليومي، لمح جاره العجوز أبا حسن جالسًا أمام منزله، يخط بعصاه أشكالًا غير مفهومة على التراب، كأنه ينحت شاهدة لقبر وطنه أو يرسم دروبًا للذكريات التي رفضت أن تُمحى، اقترب منه بخطوات مترددة، فرفع العجوز بصره إليه، عيناه كانتا مرآة لحزن أزلي، يختلط فيه الغضب بالعجز.
- أرأيت يا بني كيف أصبحنا غرباء في أرضٍ سقيناها بدمائنا؟ كيف تحوّلنا إلى أرقامٍ تنتظر دورها بين أنياب الجوع والموت؟
حاول سليم أن يرد، لكن الكلمات خانته، كما لو أنها احترقت مع البيوت التي التهمتها نيران الحرب، التفت إلى الجدار الحجري العتيق حيث كان اسم والده محفورًا من زمن، تمامًا كما حُفرت أسماء الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن الأرض وعن الحلم وعن حقٍ لم يكن يومًا للمساومة.
أطلق أبو حسن تنهيدة ثقيلة وهو يراقب السماء الملبدة بالدخان، وقال بصوت يئن تحت وطأة القهر:
- نحن لا نموت حين يقتلنا الرصاص، بل حين نصمت، حين ننسى أن هذه الأرض لنا، وأن هذا التراب احتضن أجدادنا، وأن الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع.
انحنى سليم والتقط حجرًا صغيرًا من الأرض، قبض عليه بقوة حتى شعر بخشونته تخترق راحة يده، لم يعد يوجد مجالٌ للانتظار أو للحياد، إما الثَّبات أو الفناء، لقد تحولت الأرض التي طالما حلم بها إلى ساحة قتال لا مفر منها، لكن ما يبعث الأمل في قلبه هو أن الأجيال السابقة لم تمت على تلك الأرض عبثًا، رفع رأسه نحو السماء، حيث كانت نجمةٌ وحيدة تصارع الغيوم الداكنة، كأنها تصر على البقاء على الرغْم من سواد الليل، تمتم في أعماقه بصوت يشتعل بالعزيمة:
- قد يطول الليل، وقد تتغير الوجوه، لكن الأرض لا تنسى، والتاريخ لا يغفر لمن يخذلها، وإن كان للبقاء ثمن فليُدفع كما دفعه الأجداد بالدم.
نعم للبقاء ثمن وثمن غالى
ولكنه يستحق الوطن منا كل
غالى. رائع جدا 👍💜
شكرا جزيلا على مرورك الراقي و إبداء الرأي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.