رغم شعورنا بأننا نتحكم في قراراتنا، تكشف التأملات أن هذا الإحساس قد يكون مجرد وهم مريح، إذ تتداخل عوامل عدّة -نفسية، اجتماعية، بيولوجية- في تشكيل رغباتنا وأفكارنا دون وعي منا. الوعي هنا لا يمنحنا الحرية المطلقة، بل يفتح بابًا للتساؤل، ويمنحنا لحظة مقاومة فكرية، نعي فيها أننا قد لا نملك كل ما نعتقد أننا نملكه.
1. حول وهم السيطرة
نحيا في اعتقادٍ راسخ أننا أرباب قراراتنا، سادة مصائرنا. نحمل وهمًا لطيفًا بأن اليد التي تمتد نحو الباب هي يد حرة، وبأن الخطوة التي نخطوها نحو الأمام نابعة من إرادتنا الصافية. غير أننا نغفل، أو نتغافل، عن الكم الهائل من الظروف، التراكمات، التأثيرات غير الواعية، التي شكلت تلك الإرادة نفسها.
فهل نختار، أم أن ما نظنه اختيارًا ما إلا نتيجة حتمية لمعادلات لم نكتبها؟
2. الإرادة بين الشعور والواقع
حين نشعر أننا نقرر، ذلك لا يعني أننا نقرر فعلًا. الشعور شيء، والواقع شيء آخر. ما أسهل أن نعتقد أننا نوجه دفّة المركب، في حين أننا في الحقيقة نتبَع التيار الذي اختارنا قبل أن نعي حتى وجوده. ليس من قبيل العبث أن تساءل شوبنهاور عن حرية الإرادة، أو أن يعلن نيتشه ضرورة قتل الأوهام الكبرى. الإرادة قد تكون أعمق من وعينا بها… وقد تكون شيئًا لا نملكه مطلقًا.
3. بين القدر والاختيار
قد لا يكون السؤال: «هل نملك الحرية؟»، بل: «ما مدى قدرتنا على التعرف على حدودها؟»
هل نحن حقًّا كائنات حرة، أم مجرد أدوات تنفذ إرادة كونية، طبيعية، جينية، أو حتى متخيلة؟
ربما نحن حلقات في سلسلة، كل حلقة تؤمن أنها منفصلة، في حين هي في الواقع محكومة بما قبلها، ومُسيَّرة نحو ما بعدها.
4. الوعي: لحظة تمرد خفية
ومع ذلك، هناك لحظة نادرة… لحظة يصحو فيها الوعي من غفوته. لحظة ندرك فيها أننا نسير وفق إيقاع لم نؤلفه. تلك اللحظة، وإن كانت قصيرة، تمنحنا لمحة عن حقيقتنا، وتزرع فينا سؤالًا يرفض الموت: «هل يمكنني أن أكون خارج ما تم رسمه لي؟»
الوعي لا يصنع الحرية، لكنه يفتح باب التأمل فيها، وذاك في ذاته نوع من أنواع المقاومة.
5. حين نسكننا دون أن نملكنا
نحن لا نعيش أنفسنا تمامًا، بل نسكنها كما يسكن غريبٌ بيتًا لم يختره. نتعود على جدراننا الداخلية، نزيِّنها بأفكارنا، نؤثثها بأوهامنا، لكننا نادرًا ما نعرف كيف بُنيت. نُولد في لغة لم نخترها، في جسدٍ لم نصمّمه، في زمانٍ لم نستأذنه. ومع هذا، نُطالب بأن نكون مسؤولين عن أنفسنا!
مفارقة وجودية تجعل من كل إنسان مشروع سؤال لا ينتهي.
6. بين الوعي والانقياد
قد لا يكون التحدي أن نتحرر تمامًا، فذلك وهم آخر. بل التحدي أن نعي حدودنا، أن نراقب انقيادنا، أن نتأمل داخل اللعبة دون الادعاء بكسرها. الفيلسوف لا يبحث عن إجابات نهائية، بل يسكن السؤال.. يستمع إلى صمته، ويفتش فيه عن لحظة صدق نادرة.
7. الخاتمة: الحياة ككائن حي يعيش بنا
قد تكون الحياة ليست شيئًا نعيشه… بل كائنًا يمرُّ فينا، يتجلى من خلالنا، يختبر نفسه بنا.
وحين نسأل: «هل أنا من يعيش، أم أنني أُعاش؟»، فلسنا نبحث عن ردٍّ يقيني، بل نبحث عن لحظة نستطيع فيها أن نشهد أنفسنا كما نحن… لا كما نُبرمج لنكون.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.