عالم فيزياء يقترح أن البشر محاصرون في واقع مُحاكى، فكل مواجهة تكون مصطنعة، مثل الشخصيات في ألعاب الفيديو.
منذ عام 1999، أثارت سلسلة أفلام "The Matrix" فكرة وجود عالم افتراضي متقن، فكان "مورفيوس" يخترق هذا العالم الغامض لتحرير "نيو" وقلة مختارة من البشر الذين أُسِرُوا داخل هذا الواقع الرقمي، هذا العالم صممته بعناية آلات متقدمة تسعى إلى استخدام البشر مصدرًا للطاقة.
اقرأ أيضًا ماذا تعرف عن الانفجار العظيم وعلاقته بعلم الكون؟
هل الكون محاكاة افتراضية؟
هذه الفكرة لم تقتصر على الخيال العلمي أو الثقافة الشعبية فحسب، بل شقت طريقها نحو الأوساط الأكاديمية، ما دفع الفلاسفة والعلماء إلى إعادة التفكير في طبيعة الواقع ذاته.
وقد شهدنا مؤخرًا خطوة أخرى في هذا الاتجاه، عندما اقترح عالم الفيزياء الدكتور "ميلفين فوبسون Melvin Vopson" من جامعة بورتسموث في المملكة المتحدة، قانونًا جديدًا في الفيزياء يعزز فرضية المحاكاة.
وفقًا لهذه النظرية، قد يكون ما نراه ونختبره في الواقع اليومي هو في الحقيقة محاكاة افتراضية معقدة تشغلها قوى متقدمة على حاسوب كوني عملاق.
تعود هذه الفكرة إلى أبحاث سابقة لفوبسون، حيث كان يسعى للإجابة عن سؤال غريب: هل يمكن أن تكون المعلومات نفسها، التي نستخدمها ونخزنها يوميًا، تملك كتلة وطاقة فعلية؟
في مقطع فيديو نشرته جامعة بورتسموث على "يوتيوب" في مارس الماضي، قدم فوبسون تفسيرًا بسيطًا لكنه مثير للتفكير، وقال: "أي شخص عادي قد يتساءل، هل يمكن أن نكون بالفعل في نوع من العوالم الافتراضية الرقمية؟".
وأضاف: "إذا فكَّرنا في تطور التكنولوجيا، ليس من الصعب أن نتخيل حضارة متقدمة، أو حتى نحن في المستقبل، تصل إلى مستوى تقني يمكِّنها من محاكاة الكون بأكمله بطريقة تجعل هذه المحاكاة غير قابلة للتمييز عن الواقع".
إنَّ ما يقترحه فوبسون يتجاوز بكثير مجرد فكرة علمية غريبة؛ فهو يتحدى مفاهيمنا عن الواقع والوجود.
فإذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإن كل ما نراه، من الحجارة والأشجار إلى النجوم والمجرات، قد لا يكون سوى رموز معلوماتية مخزنة في نظام هائل، تمامًا كما يحدث في ألعاب الفيديو التي نصممها نحن.
قد نكون، من منظور أوسع، جزءًا من تجربة تجريها حضارة أخرى، أو أننا نعيش في محاكاة أنشأتها تقنيات مستقبلية طورتها البشرية ذاتها.
اقرأ أيضًا ماذا تعرف عن نظرية الانفجار العظيم؟
العالم حاسوب عملاق
هذه النظرية، مع أنها لا تزال في طور النقاش، تفتح أبوابًا غير متوقعة للتساؤل حول طبيعة الكون، وما إذا كنا نعيش في واقع فعلي، أو أننا مجرد رموز داخل نظام معلوماتي أكبر لا ندركه إدراكًا كليًّا.
فرضية الكون المحاكي موجودة منذ سنوات عدة Simulation Theory: How is ‘Religion’ Part of It? Studying Religion in Culture
لطالما كانت فكرة أن الكون يعمل على أكواد كمية أشبه بأطروحة خيالية أو فلسفية، لكن هذه الفكرة بدأت تأخذ منحى علميًّا جادًا منذ سنوات، خصوصًا في عام 2003 عندما نشر الفيلسوف نيك بوستروم من جامعة أكسفورد ورقة بحثية مؤثرة حول ما يُعرف بـ"حجة المحاكاة".
هذه الحجة تستند إلى مبدأ بسيط لكنه عميق: أي شيء يمكن محاكاته إذا توفر حاسوب ذو قوة كافية.
ولكن الفكرة لا تتوقف عند هذا الحد، فقد ذهب بوستروم إلى أبعد من ذلك ليقترح أن الحضارات المتقدمة قد تصل إلى مرحلة من التطور التكنولوجي تمكنها من بناء محاكاة دقيقة لتاريخها، أو ربما حتى لخلق عوالم افتراضية وسيلة للترفيه عن أبنائها.
هذه الفرضية لم تتوقف عند الفلاسفة والعلماء، بل امتدت لتنال اهتمام كثير من الشخصيات البارزة في عالم التكنولوجيا.
ومن بين هؤلاء، إيلون ماسك، مؤسس شركة "تسلا" ومديرها التنفيذي، الذي أعرب في مؤتمر عام 2016 عن رأيه الجريء بأن احتمالات أن نعيش في ما أسماه "الواقع الأساسي" -أي الكون الحقيقي وليس محاكاة- هي "واحد في المليارات". فوفقًا لمسك، مع التقدم الهائل في الذكاء الاصطناعي والحوسبة، يصبح من المنطقي أن نكون نحن أنفسنا جزءًا من محاكاة صنعها كيان أكثر تقدمًا.
لكن هنا يبرز السؤال المحوري: إذا كنا فعلًا نعيش في محاكاة، فهل نحن مختلفون كثيرًا عن الشخصيات الافتراضية التي نتحكم بها في ألعاب الفيديو مثل "The Sims"؟
تلك الشخصيات التي تعيش في عوالم مصطنعة ومحدودة، محاصرة داخل نطاق ضيق من التجارب، في حين يقف وراءها لاعبون أكثر ذكاءً وتقدمًا.
ومع ذلك، فإن إثبات هذه الفرضية، أو حتى دحضها، يُعد تحديًا هائلًا. الفكرة مثيرة للعقل والتأمل، ولكنها أيضًا مراوغة في تأكيدها.
في عام 2020، قام عالم الفلك ديفيد كيبينغ من جامعة كولومبيا بإجراء دراسة تُظهر أن احتمالات أن نعيش في "واقع أساسي" أو "كون حقيقي" هي في الواقع قريبة من 50-50، مع ميل بسيط للاحتمال القائل إننا لا نعيش في محاكاة.
في النهاية، قد يكون الكون الذي نراه أمامنا أشبه بواجهة رقمية متقنة، حيث تُحدد قوانين الفيزياء مثل أكواد برمجية دقيقة، ونحن مجرد كائنات "افتراضية" في لعبة أعظم منَّا.
ومع ذلك، تظل هذه مجرد فرضية، مليئة بالاحتمالات المذهلة، التي تتحدى قدرتنا على الفهم وتجعلنا نتساءل عن جوهر وجودنا.
اقرأ أيضًا أسرار وتساؤلات عن الكون والقدرة الإلهيه
ما الجديد في هذا البحث؟
تستند أحدث بحوث الدكتور ميلفين فوبسون إلى فكرة ثورية تُعيد تشكيل فهمنا للكون، حيث يقترح أن المعلومات ليست مجرد بيانات مجرَّدة، بل هي المكون الأساسي للكون ذاته.
ووفقًا لهذه النظرية، فإن المعلومات ليست فقط شيئًا نتداوله أو نخزنه في الحواسيب، بل تمتلك طاقة وكتلة فيزيائية، شأنها شأن المادة والطاقة التي نعرفها.
في فيديو نُشر على "يوتيوب"، طرح فوبسون سؤالًا مثيرًا للتفكير: "عندما تكون البتة (وحدة المعلومات) في حالة توازن وتخزن المعلومات، إلى أين تذهب تلك المعلومات؟" مشيرًا إلى أن الطاقة، كما نعلم، لا يمكن أن توجد بمفردها؛ بل تحتاج دائمًا أن تتخذ شكلًا ما.
هذه الفكرة الجديدة ليست مجرد تكهنات فلسفية، بل ترتكز على علم الفيزياء المعلوماتية، الذي يؤمن به فوبسون وزملاؤه.
هؤلاء العلماء يرون أن واقعنا الفيزيائي، بكل تفاصيله، قد يكون مكونًا من وحدات صغيرة من المعلومات، تمامًا ثم إن أجسامنا تتكون من خلايا تحتوي على شفرات وراثية دقيقة تُعرف باسم DNA. بمعنى آخر، قد تكون المعلومات هي "اللبنة الأساسية" التي يتكون منها كل شيء، سواء كان ذلك الجسيمات الصغيرة أو الكواكب الكبيرة.
في عام 2022، قدم فوبسون اكتشافًا مفاجئًا يتحدى أحد أهم قوانين الفيزياء، وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية.
ينص هذا القانون على أن كل عملية طبيعية تؤدي إلى فقدان للطاقة وزيادة في الفوضى (أو الإنتروبيا).
لكن، ومن خلال دراساته، اكتشف فوبسون أن نظم المعلومات قد تكون استثناءً لهذا القانون. فقد وجدت البحوث أن المعلومات يمكن تخزينها دون فقدان للطاقة أو زيادة الفوضى، وهو اكتشاف يُعدُّ ثورة في فهمنا للآليات الطبيعة.
وللتوضيح بشكل أبسط، تخيل الجينوم RNA، وهو المادة الوراثية التي تحتوي على كمية هائلة من المعلومات حول كيفية بناء كائن حي. يمكن لهذا الجينوم أن يُنسخ على نحو مثالي، دون فقدان أي معلومة من المعلومات المخزنة فيه.
وكأننا نقول إن نظم المعلومات تملك القدرة على مقاومة التدهور الطبيعي الذي تشهده العمليات الفيزيائية الأخرى، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول طبيعة المعلومات نفسها، وهل يمكن أن تكون هي سر استمرارية النظام في الكون؟
بهذه الطريقة، يُعيد فوبسون صياغة فهمنا للعالم من حولنا. فما يبدو لنا عالمًا ماديًا صلبًا قد يكون في حقيقته مجرد شفرات من المعلومات المخزنة بطريقة ذكية، تديرها قوانين لا تزال غامضة لنا.
وهذا التحول في التفكير قد يُفضي إلى تغييرات كبيرة في علوم الفيزياء، وعلم الكونيات، بل وحتى في فهمنا للوراثة والحياة نفسها.
اقرأ أيضًا ماذا يوجد خارج الكون؟
القانون الثاني لديناميات المعلومات: إعادة تعريف الإنتروبيا وفهم الكون
اكتشف الدكتور ميلفين فوبسون أن الإنتروبيا في نظم المعلومات لا تزداد كما هو متوقع، بل تنخفض.
هذا الاكتشاف الجريء دفعه إلى وضع ما يُعرف بـ "القانون الثاني لديناميات المعلومات"، وهو مفهوم قد يغيِّر الطريقة التي ننظر بها إلى المعلومات والكون من حولنا.
إن الإنتروبيا، في علم الفيزياء، تشير إلى مقياس الفوضى أو العشوائية في نظام معين.
وفقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، يجب أن تزداد الإنتروبيا في أي عملية طبيعية، ما يعني أن الفوضى ستزداد دائمًا.
ولكن فوبسون -في بحوثه- أظهر أن نظم المعلومات تتحدى هذا المبدأ، حيث يمكن أن تخزن المعلومات بطريقة تسمح لها بالاستمرار دون زيادة في الفوضى، بل إن الإنتروبيا يمكن أن تنخفض.
فوبسون لا يتوقف عند هذا الحد؛ فهو يسعى الآن لتطبيق اكتشافاته في مجالات متعددة تشمل علم الوراثة، وعلم الكونيات، والفيزياء الذرية، والتناظر، حتى فرضية المحاكاة التي تثير الجدل.
في ورقة بحثية نُشرت الأسبوع الماضي في مجلة AIP Advances، استخدم فوبسون تشبيهات تقنية ليوضح كيف أن إزالة المعلوماتالزائدة من الكون تشبه عملية حذف أو ضغط الأكواد غير الضرورية في حاسوب.
هذه العمليات تهدف إلى توفير مساحة التخزين والحفاظ على الطاقة، ما يظهر طريقة عمل الكون كله.
يمكننا تصور الكون كحاسوب عملاق يعمل معالجة معقدة، فيتخلص من المعلومات الزائدة لتحسين كفاءته.
هذا الربط بين المعلومات والوجود يطرح تساؤلات عميقة: إذا كان الكون يُعالج المعلومات بهذه الطريقة، فهل من الممكن أننا نعيش في واقع اصطناعي مشابه لما تم تصويره في فيلم "المصفوفة"؟ وفقًا لهذه الفرضية، قد لا نكون نحن أو أي شيء آخر نراه سوى تمثيلات افتراضية داخل نظام معلوماتي أكبر.
ومع ذلك، يشدد فوبسون على أن اكتشافاته لا تثبت هذه النظرية على نحو قاطع. في الفيديو الذي نشره، قال: "هذا لا يثبت ذلك تمامًا"، مضيفًا أن النتائج تدعم الفكرة بالأدلة التجريبية، لكنها لا تعني بالضرورة وجود توافق كامل حول ما يحدث؛ إنها مجرد احتمال واحد من بين كثير من الاحتمالات.
هذا السعي لفهم العلاقة بين المعلومات والكون يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للتفكير، ويجعلنا نتساءل عن طبيعة وجودنا.
هل نحن مجرد رموز في نظام معلوماتي معقد؟ أم أن هناك شيئًا أعمق من ذلك بكثير؟
ما زالت الأسئلة قائمة، ولكن ما يُظهره فوبسون هو أن العلم، في كل لحظة، يقترب أكثر من فهم أسرار الكون، وكأننا نقرأ فصلًا جديدًا من قصة طويلة تتعلق بحياتنا ومكاننا في هذا الكون الشاسع.
كلام عجيب
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.