ولدتُ في عام 1995، في قلب سوريا الجريحة، بين الأزقة القديمة لمدينةٍ كانت تنبض بالحياة، قبل أن تتسرب منها الألوان شيئًا فشيئًا، وتغدو رماديةً باهتة، تتقاطع فيها صرخات الأطفال مع أزيز الرصاص. أنا محمود، شاب في التاسعة والعشرين من عمره، أحمل على ظهري سنواتٍ مثقلةً بالقهر، والفقر، والانكسارات، لكنني ما زلت أبحث عن بصيص أملٍ في آخر هذا النفق الطويل.
في طفولتي، كنت أحلم بأن أصبح طبيبًا، أو مهندسًا، أو حتى كاتبًا يُمسك القلم كما يُمسك السيف، يواجه به العالم ويغيِّر به الواقع. كنت أركض في الحقول، ألهو تحت أشعة الشمس، وأرسم على الرمل أحلامًا بسيطة لكنها صادقة. لم نكن أغنياء، بل بالكاد كنَّا نحصل على قوت يومنا، لكن كان في قلوبنا دفء، وفي عيون أمي حنانٌ يطغى على كل ألم.
ثم جاء ما لم يكن في الحسبان. اندلعت الحرب، وتغير كل شيء. أصبحت الأحلام رفاهية، والأمان سلعة نادرة، والحياة نفسها تحديًا يوميًا. رأيت بأمِّ عيني أصدقاء الطفولة يسقطون واحدًا تلو الآخر، لا لذنبٍ اقترفوه، بل لأنهم وجدوا في الزمان والمكان الخطأ. مات بعضهم برصاص القناصة، وبعضهم تحت القصف، وآخرون اختفوا في غياهب المعتقلات، لا نعلم عنهم شيئًا حتى اليوم.
في سنٍ مبكرة، وجدتُ نفسي معيلًا لعائلتي. والدي مريض، وأمي أُنهكت من الحزن والتعب، وإخوتي صغار لا يدركون بعد قسوة هذا العالم. عملت في كل شيء: بائعًا على الرصيف، عاملًا في ورشة نجارة، وأحيانًا حمالًا في سوق الهال. كنت أستيقظ قبل الفجر، أجرُّ جسدي المنهك، وأعود ليلًا إلى منزلٍ باردٍ خاوٍ إلا من الهموم. ومع ذلك، لم أستسلم.
الفقر كان كابوسًا دائمًا. لم يكن يطرق الباب، بل كان يسكن معنا. كم من ليلةٍ نمتُ فيها وأنا أقاوم الجوع، أحتضن وسادتي وأقنع نفسي أن غدًا سيكون أفضل. كم من مرةٍ رأيتُ دموع أمي تسقط خفية، وهي تحاول أن تطبخ لنا ما تبقى من فتات الطعام. كنا نضحك حينًا، نبكي حينًا، لكننا لم نكف عن الحلم.
تعلمت كثيرًا من الشارع: الصبر، الحيلة، والنجاة. لكنِّي لم أفقد شغفي بالتعلُّم. كنت أقرأ كل ما تقع عليه يدي، استعرت الكتب من الأصدقاء، وجلست في الزوايا المظلمة أستمع إلى تسجيلاتٍ تعليمية على هاتف قديم، كان كنزي الوحيد. أردت أن أكتب، أن أصرخ بما في داخلي، أن أدوِّن هذا الوجع الذي يكاد يفتك بي، ولكن قلمي كان أضعف من أن يعبِّر، أو ربما كان الحزن أعمق من الحروف.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أطلب شفقة، ولا أبحث عن بطولة. أنا مجرد شاب سوري، يرفع صوته للمرة الأولى، يسأل: هل من منقذ؟
هل من يدٍ تمتدُّ لا لتنقذ جسدي فقط، بل لتنتشل روحي التي أنهكها الانتظار؟ هل من نورٍ في هذا الظلام الحالك؟ هل من فرصةٍ أستحقها؟
ليس لأنني مميز، بل لأنني إنسان، ولأن قلبي ما زال ينبض على الرغم من كل هذا العناء.
لقد عشت ثلاثين عامًا تقريبًا، لكني أشعر أنني أُرهقت وكأنني في السبعين. لا أملك المال، ولا الجاه، ولا حتى الاستقرار، لكنني أملك إرادةً لا تزال تقاتل، وحلمًا بسيطًا بأن أروي قصتي، وأن يسمعها أحدهم في مكانٍ ما. ربما تلامس قلبًا فينهض ليساعد، أو في الأقل، ليشعر أنَّ في هذا العالم من يعاني بصمت.
أنا لست وحدي، آلاف الشبان أمثالي في سوريا، يقفون عند مَفرِقِ طرق. منهم من غرق في البحر بحثًا عن حياة أفضل، ومنهم من انكسر في المنافي، ومنهم من لا يزال صامدًا هنا، يقاتل كل يوم من أجل لقمة عيش، أو من أجل حلمٍ صغير لا يعرف إن كان سيتحقق يومًا.
أكتب هذا المقال لأنني أؤمن أن الكلمة يمكن أن تكون منقذًا، أن الحديث عن الألم هو بداية الشفاء. لست خائفًا من أن أُظهر ضعفي، بل فخور بأنني ما زلت قادرًا على الحلم، على الرغم من كل شيء.
ربما لا أجد المنقذ الذي أبحث عنه، وربما أظل أواجه الحياة وحدي، لكنني في الأقل رفعت صوتي، وقلت كلمتي، وسجلت حكايتي.
وفي النهاية، أقول لكل من يقرأ: لا تسكتوا عن وجعكم، ولا تستسلموا؛ فقد يكون صوتكم هو طوق النجاة لشخصٍ آخر، وقد يكون صوتكم هو المنقذ الذي تبحثون عنه.
يا ابن بلدي
.... كلام مؤثر جدا ... ولنا في الله امل لا يزول
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.