هل ما زلنا نحتاج إلى الفن؟

في عالمٍ يُقاس فيه النجاح بعدد المشاهدات، وتُختزل فيه المعرفة في ثوانٍ معدودة، يبدو سؤال «هل ما زلنا نحتاج للفن؟» منطقيًّا أكثر من أي وقت مضى، فقد تحوَّل الذوق العام إلى سباقٍ على ما هو سريع، خفيف، وسهل الهضم، تراجعت مساحة التأمل، وتقلصت لحظات الصمت لمصلحة الضجيج الرقمي، فهل ما زال للفن مكان في هذا العالم السريع؟

الفن.. مرآة الروح وضرورة وجودية

الفن بكل أنماطه هو مرآة للروح الإنسانية، إنه ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية، الفن لا يملأ الفراغ، بل يكشفه، لا يُلهينا، بل يُوقظ فينا ما نام تحت ركام العادة والبلادة، هو تلك المساحة الصامتة التي نلجأ إليها حين يعجز الكلام، وتضيق الحياة، يعلمنا كيف ننظر، لا فقط كيف نرى، كيف نُحدّق في التفاصيل الصغيرة ونمنحها حقها في الحضور، يعلمنا كيف نصغي، لا فقط كيف نسمع؛ كيف نميّز بين ضجيج العالم ونبض القلب.

الفن.. إنسانيتنا في زمن التفكير الآلي

في زمن تسوده القوالب الجاهزة والتفكير الآلي، يأتي الفن ليعيد إلينا إنسانيتنا، ليذكرنا بأن في داخلنا شيئًا هشًا وجميلًا يستحق العناية، لا يُقاس بالأرباح، ولا يُقارن بالمعدلات، ولا يُشبه أي معادلة رياضية، الفن يربّت على الكتف، يعزف على أوتار الذاكرة، ويقول لنا: «أنتم لستم آلات. أنتم بشر، تصابون وتشفون، تفرحون وتحزنون، تفكرون وتحلمون».

الفن.. النور الذي يغير العالم بصمت

الفن لا يغيِّر العالم بالضربة القاضية، لكنه يغيِّره بالنور، قطرةً قطرة، ولوحةً بعد أخرى، ونغمةً بعد نغمة، إنه اللغة التي نتقاسمها دون اتفاق، والرابط الذي يربطنا بطفولتنا، وأحلامنا، وجراحنا القديمة التي لم نُخبر بها أحدًا.

الفن.. حافظ الحضارات وذاكرة لا تموت

لقد بُنيت الحضارات بالفكر والسيف، لكن ما بقي منها فعلًا هو الفن، هو الذاكرة التي لا تموت، والصوت الذي يسبق اللغة، من يستطيع أن يتذكر حروب الإغريق كما يتذكر منحوتات فيدياس؟ من يقرأ اليوم عن ملوك النهضة دون أن يتأمل لوحات مايكل أنجلو ورافاييل؟ إن الفن هو من يمنح التاريخ وجهًا يمكن التحديق فيه، ورائحةً يمكن تمييزها وسط ركام القرون.

الفن.. زرع الأمل في أرض الدمار

حين تنهار المدن وتُمحى الأسماء من الخرائط، يبقى تمثالٌ على حافة الزمن، أو جدارية باهتة على جدار مهدم، شاهدةً على أن أحدًا ما، ذات يوم، أحبَّ الحياة بما يكفي ليرسمها، في المجتمعات المنكوبة، لا يخرج الفن من بين الركام فحسب، بل يحمل بيده قلب الناس، ويعيد إليهم نبضهم، يكتب شعرًا على جدران الخوف، ويغني على الرغْم الانفجارات، ويرسم وجوه الأطفال الذين لم يكبروا.

الفن لا يحمي من الحرب، لكنه يمنع الموت التام، لا يصنع الخبز، لكنه يزرع الأمل، إنه تلك الصرخة الهادئة التي تقول في وجه الدمار: «ما زلنا هنا، وما زلنا نحلم»، وكأن الحلم في حد ذاته فعل مقاومة، وكأن الجمال نمط من أنماط النجاة.

في زمن السرعة.. لماذا تزداد حاجتنا للفن؟

في زمن السرعة، نحتاج إلى الفن أكثر؛ لأنه يعلمنا البطء الجميل، التأمل العميق، العودة إلى الداخل، في زمن السطحية، نحتاج إلى الفن أكثر؛ لأنه يمنحنا عمقًا، يُعرِّفنا بأنفسنا، ويفتح لنا نوافذ على الآخرين، في زمن الغضب والانقسام، نحتاج إلى الفن أكثر، لأنه يوحِّد، يُداوي، ويخلق لغة لا تحتاج إلى ترجمة.

وفقًا لدراسة نشرتها Harvard Medical School عام 2021، فإن التعرّض للفنون البصرية والموسيقية يُسهم في تقليل مستويات التوتر وتحسين الصحة النفسية، كما يعزز من التعاطف والروابط الاجتماعية، ما يظهر أهمية الفن ليس فقط كونه منتجًا جماليًّا، بل كونه أداة حقيقية للصحة العامة.

خاتمة: الفن جوهر ما يجعلنا بشرًا

ربما لا تُدرّ أرباح الفن بسرعة المحتوى الفيروسي، لكنه يربِّي أجيالًا تعرف كيف تحب، كيف تفكر، وكيف تترك أثرًا، لهذا، يجب أن نتمسك به كما نتمسك بالأمل، لأنه ببساطة، الفن هو ما يجعل الإنسان إنسانًا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.