لم ينكر أحد على برنارد شو تأثره بأسطورة التمثال الإغريقي الكاره للنساء، الذي حاول أن يستعيض عن علاقته بالنساء بشيء آخر وهو صناعة تمثال نسائي يُضيف إليه كل ما يتمناه رجل في أنثى. وبدأ بعبقرية يُزيل عن الصخر صخريته، وبدأ التمثال الأنثوي يظهر إلى الوجود قريبًا من الحقيقة حتى علق به الفنان وعشقه، وهام به وجدًا وتمنى أن يكون حقيقة، ثم بدأ يتقرب من الآلهة داعيًا راجيًا أن تبث الروح في معشوقته الصخرية، واستجابت الآلهة لتوسلاته وبثت الروح في تمثاله.
اقرأ أيضاً مسلسل أزمة منتصف العمر وآثاره السلبية على الجماهير
البوستر الرسمي لمسلسل "نجيب زاهي زركش"
وقد التقط جورج برنارد شو فكرة "بجماليون" الإغريقية، وأعاد صياغتها في مسرحية من أجمل المسرحيات التي أثرت في كثيرين ممن جاؤوا بعده. وقد أقدم بهجت قمر وسمير خفاجي على تمصير المسرحية ونقلها إلى المسرح المصري تحت عنوان "سيدتي الجميلة" التي أدت شويكار وفؤاد المهندس بطولتها، وكان المهندس في دور الفنان الذي صنع من شوارعية سيدةً أرستقراطية مئة بالمئة.
إذًا ما العيب على عبد الرحيم كمال؟ هذا المثقف المستنير في تأثره وتوظيفه لفكرة بريتولد بريخت الذي يحكي قصة الثري بونتيلا الذي يعيش في قصره العظيم، وقد اعتاد شرب الخمر، وحين يغيب عقله تظهر عليه مظاهر الطيبة والحنو والعطف على الفقراء، وينقلب إلى العكس تمامًا حين يفيق من حالته، فينقلب إلى الظلم والبطش والقسوة عند ذهاب أثر الخمر عنه.
لا يُهمني إن كان بهجت قمر قد استعار الفكرة من الأسطورة الإغريقية مباشرة أم من مسرحية جورج برنارد شو.
إنه الفن يا سادة.. لم يهاجم أحد برنارد شو ولا بهجت قمر على إعادة توظيفهما للفكرة، فالفكرة واحدة وأُعيد توظيفها عدة مرات.
اقرأ أيضاً مسلسل بالطو يثير غضب أهالي مركز مطوبس
تابع البوستر الرسمي
والعبقرية هنا -ليست في مجرد الفكرة-، فالمعاني -بلغة الجاحظ- مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي والمدني، وإنما الفن صناعة وصياغة من وجهة نظري، ولنتذكر ما فعله سَلْمُ الخاسر حين أعاد صياغة بيت بشار بن برد:
مَن راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفـاز باللـذات الفاتـك اللـهج
فأعاد سلم الخاسر المعنى نفسه بصياغة أبسط وأجمل، وقال:
مَن راقب الناس مات غما
وفـاز باللـذة الجسـور
لم يصرخ بشار صاحب الفكرة الرئيسة للبيتين في وجه سلم الخاسر متهمه بالسرقة، وإنما قال له: أمَتَّ بيتي أماتك الله، ولم يتهمه بالسرقة، وذلك لأن صياغة سلم الخاسر كانت أوجز وأجمل وأسرع انتشارًا من صياغة بشار.
إنه الفن يا سادة، وعباقرة الفن وحدهم هم القادرون على فتح نوافذ جديدة في موضوعات قديمة، وقد قالها عنترة من قبل متسائلًا متعجبًا:
هل غادر الشعراء من متردم؟
وقد قال كثيرون مثل قول عنترة، ولم يترك الأول للآخر شيئًا: "أو إن كثيرًا من كلامنا مكرورًا".
اقرأ أيضاً مسلسل وبيننا معاد يشعل الترند بعد انتهاء حلقاته واحتفال شيرين رضا
نبذة مختصرة عن الدكتور محمد أبو علي
بونتيلا بطل "بريخت" إنسان جدًّا وهو مخمور، وحيوان جدًّا وهو غير مخمور..
أما نديمه وصديقه وخادمه ماتي فيتابعه في كل حالاته؛ لأنه الخادم والنديم والصديق والساقي وكاتم السر الذي يعيش معه كل حالاته ويرى كل تقلباته وليس له أن يعترض، وكأنه لا يرجو إلا البقاء في حضرة السيد ماتي! وهو هنا يُشبه طريفًا الذي يتابع زركش في مسلسل "نجيب زاهي زركش"، أو قل إن طريف زركش نسخة مكررة من ماتي بونتيلا.
لا أنكر التشابه الكبير بين فكرة بريخت ونجيب زاهي زركش، فالفكرة واحدة، لكن المعالجة مختلفة، وليست هذه هي المعالجة الأولى لمؤلفنا عبد الرحيم كمال، الذي اعتاد توظيف التراث العالمي بطريقة بسيطة، فقد سبق أن ألَّف مسلسل "دهشة" من بطولة الفنان يحيى الفخراني، وقد عُرِض هذا المسلسل في رمضان عام 2014. وأرى أن دهشة معالجة رائعة جديدة لرائعة وليم شكسبير "الملك لير".
كذلك في "شيخ العرب همام" و"الخواجة عبد القادر"، نرى هذه الروائع للمؤلفات العالمية في كتابات عبد الرحيم كمال. لكن هل يُعَد الاقتباس في مثل هذه الحالات عيبًا سواء أكان عبد الرحيم قد تأثر بفكرة بريخت أم غيره في نجيب زركش؟
اقرأ أيضاً مسلسلات رمضان 2023.. المداح ورمضان كريم أول القائمة
يحيى الفخراني في مشهد من "الخواجة عبد القادر"
إن هذا هو خط المؤلف ومنهجه الذي اعتدناه من قبل، وهو عجن هذه الأفكار بزيت الشخصية المصرية ودقيقها والهوية المصرية. هذا ما وجدته في كل شخصيات زركش ودهشة والخواجة عبد القادر.
لا يهمني الفكرة وأنها مقتبسة أو مسروقة أو متناصة أو غير ذلك من مصطلحات النقد الأكاديمي الجاف، ولكن يهمني كيف عجنها المؤلف بالهوية المصرية أو قل كيف مصَّرها المؤلف وجعلها غير غريبة على عادات الشخصية المصرية.
وقد ظهر ذلك بتوظيفه شِعرَ صلاح جاهين وكثيرًا من شعر العامية وأقوال الفلاسفة، والحوارات بين الشخصيات حوارات جميلة لا تشعر فيها بتكلف في نسج كثير من أبيات الشعر ولا العبارات ذات البعد العميق، ما يدل على عبقرية المؤلف في إعادة تمصير "نجيب زركش".
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.