"أنا لا أحب اللغة العربية" جملة نسمعها كثيرًا هذه الأيام، تتردد مع أخواتها مثل: "لماذا ندرس هذه اللغة؟" و"ما الفائدة من معرفة تاريخ الأدب أو دراسة معلقات زهير وامرئ القيس؟"
يقول البعض إن حفظ أشعار العربية أصعب من دراسة اللغة الإنجليزية، التي يرون أنها أكثر فائدة لحياتهم اليومية ومستقبلهم المهني. أما العربية، فيرون أن فائدتها محدودة وصعبة المنال.
ولكن، أليس في هذا ظلمٌ كبيرٌ للغتنا الحبيبة؟
اقرأ أيضًا: أهمية اللغة العربية في نيجيريا
جمال لغتنا وثراؤها
"إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله أركانا"
بهذه الأبيات، يصور الشاعر لبيد بن ربيعة أثر الجمال على النفس البشرية. في هذه الكلمات، تتجاوز اللغة الوصف الحسي لتصل إلى أعماق النفس، مستعرضةً كنايةً، وتضادًا، وسحرًا لغويًّا قلَّ نظيره. هذه القدرة على دمج الصور الجمالية بالمشاعر العميقة هي من أعظم خصائص اللغة العربية.
ما هذه اللغة الغنية المملوءة بالأوصاف والمعاني العميقة؟ اللغة العربية ليست مجرد كلمات، بل هي فن يحمل في طياته تاريخًا وثقافةً وأحاسيسًا تظهر جمال الإنسان العربي وتفرده.
اقرأ أيضًا: أصل اللغة العربية وأول من نطق بها
العربي شاعر وإنسان
الشعر العربي القديم لم يكن مجرد كلمات تتغنى بالمشاعر؛ كان وسيلة للتعبير عن الحس المرهف والاعتزاز بالجمال. هذا الشاعر العربي، الذي كان إنسانًا متميزًا، رأى في المرأة جزءًا جوهريًّا من حياته واحتفى بها في قصائده.
في قصائد مثل:
"بانت سعاد فقلبي اليوم متبول"،
تجد بوحًا عميقًا بمشاعر صادقة تجاه الحبيبة. حتى في القصائد التي تناقش موضوعات أخرى، تجد أبياتًا من الغزل تزين النص، تعبيرًا عن تقديرهم للمرأة ودورها في حياتهم.
اقرأ أيضًا: الخلطة السحرية لإعراب أي كلمة في النحو
مرونة اللغة العربية
اللغة العربية تمتاز بمرونتها الكبيرة. الكلمة الواحدة يمكن أن تحمل معاني متعددة حسب السياق، ما يجعلها أداة قوية في يد الشاعر والكاتب. العربي البليغ يستخدم اللغة كما يستخدم الرسام أدواته، فيرسم بها صورًا جمالية تأسر القلوب.
تأمل هذا الوصف:
"لما رأيت أنواره سطعت
وضعت من خيفتي كفي على بصري
خوفًا على بصري من حسن طلعته
فلست أنظره إلا على قدري
روح من النور في جسم من القمر
كحلية أُنسجت من الأنجم الزهر"
هنا تظهر اللغة العربية أداة فنية قادرة على تصوير أدق الأحاسيس، مستعرضةً قوة التعبير التي تتفوق بها على كثير من اللغات الأخرى.
لغتنا بين الماضي والحاضر
قد يظن البعض أن اللغة العربية لا تناسب العصر الحديث. لكن الحقيقة أن اللغة العربية، بثرائها وتنوعها، قادرة على مواكبة كل العصور. نحن من نحتاج إلى فهم قيمتها وإحيائها في حياتنا اليومية.
إن دراسة اللغة العربية ليست فقط لاسترجاع الماضي، بل لفهم جذور هويتنا والتواصل مع عمق ثقافتنا.
جمال اللغة وثراؤها
"أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي"
بهذه الكلمات، يُبرز الشاعر حافظ إبراهيم جمال اللغة العربية وغناها، مشبهًا إياها بالبحر الذي يخفي داخله كنوزًا من المعاني والتعابير. العربية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي لوحة فنية تنبض بالجمال، تُمثل صورًا متكاملة من الكلمات.
مثال آخر على روعة التعبير العربي:
"أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم"
بهذه الأبيات، يؤكد المتنبي على قوة اللغة التي تتجاوز الحواس لتصل إلى القلب والعقل.
لغة تعبر عن ثقافة العرب
العربية ليست لغة معبرة فحسب، بل هي مرآة تظهر أخلاق العرب وثقافتهم. في قصائدهم، تجد الشهامة، المروءة، حماية الأهل، ونصرة المظلوم. يقول عنترة بن شداد:
"أغض الطرف عن جارتي حتى يواري جارتي مثواها"
هنا يظهر احترامه للمرأة وصون حرمتها، ما يظهر قيم العفاف والشرف التي تميزت بها ثقافة العرب.
وفي موقف آخر، يعبر عنترة عن بسالته في الحرب وحبه العميق حين يقول:
"ولقد ذكرتك والرماح نواهلُ
وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ الرماحِ لأنَّها
لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسّمِ
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمَها
قولُ الفوارسِ: ويك عنترُ أقدِمِ
يدعون عنترَ والرماحُ كأنَّها
أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهمِ"
تجمع هذه الأبيات بين الشجاعة والفروسية والنجدة في المعركة والحب العميق، مما يبرز إنسانية العربي الذي يجمع بين الفروسية والمشاعر الرقيقة.
روعة التصوير والتعبير
اللغة العربية تتميز بقدرتها على تصوير أدق التفاصيل بحرفية بالغة. خذ على سبيل المثال قول امرئ القيس:
"مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
كجلمودِ صخرٍ حطَّهُ السيلُ من علٍ"
في هذه الأبيات، يصور الشاعر خيلًا تندفع بقوة وسرعة، مستخدمًا كلمات قليلة لرسم صورة ديناميكية ومتكاملة.
وفي وصف الفخر يقول المتنبي:
"الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ"
تتجلى هنا ملامح العربي الشهم الذي يوازن بين القوة العسكرية والعلم.
لغة المشاعر والأحاسيس
العربية ليست لغة القوة والفخر فقط، بل هي لغة الحب والغزل أيضًا. يقول جميل بثينة:
"ألا ليتَ ريعانَ الشبابِ جديدُ
ودهرًا تولّى يا بثينةُ يعودُ"
وفي الرثاء، يُبدع الشاعر في التعبير عن الحزن:
"إذا جاءنِ..."
لغة الشمولية والتنوع
اللغة العربية ليست مقيدة بجانب واحد من الحياة. إنها لغة متعددة الأوجه تشمل الفخر، الغزل، الهجاء، المدح، والرثاء. تحمل في كل حرف نغمة، وفي كل كلمة معنى يتجاوز حدود الزمان والمكان.
الشعر الحديث وأمثلة من الروائع
أحمد شوقي أمير الشعراء، أعاد إحياء الشعر العربي وجعله ناطقًا بروح العصر. في قصيدته المشهورة "نهج البردة"، يقول:
"ولد الهدى فالكائناتُ ضياءُ
وفمُ الزمانِ تبسّمٌ وثناءُ"
هذه الأبيات تمزج بين الإيمان والشعر بأسلوب راقٍ يُظهر جمالية اللغة وبلاغتها.
حافظ إبراهيم، شاعر النيل، عبّر عن قضايا أمته وأهميتها بقوة. من أشهر أبياته:
"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"
وفي دفاعه عن اللغة العربية قال:
"أنا البحرُ في أحشائهِ الدرُّ كامنٌ
فهلْ ساءلوا الغوّاصَ عن صدفاتي"
محمود سامي البارودي، رائد مدرسة الإحياء والبعث، أظهر جزالة اللفظ وجمال التصوير في قوله:
"سيذكرني قومي إذا جدَّ جدُّهم
وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ"
الأدب الحديث وأعلامه
طه حسين، عميد الأدب العربي، كتب بلغة عربية نقية تواكب الفكر الحديث، كما في كتابه "الأيام"، حيث مزج بين السيرة الذاتية وقضايا الإنسان بأسلوب بسيط لكنه عميق.
عباس محمود العقاد، في كتاباته الفكرية والنقدية مثل "عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم"، استخدم اللغة العربية لتقديم أفكار فلسفية ونقدية بأسلوب يجمع بين القوة والوضوح.
نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل، استطاع أن يجسد الواقع الاجتماعي في رواياته مثل "الثلاثية" و"زقاق المدق".
الشعر العاطفي والغنائي
نزار قباني، شاعر الحب، جعل العربية لغة العاطفة والوجدان:
"يا امرأةً تمسك القلب بين يديها
سألتكِ باللهِ لا تتركيني
فما أكونُ أنا إذا لم تكوني؟"
فاروق جويدة، بأسلوبه الرقيق والشفاف، يقول:
"في عينيكِ عنواني
وفيها يبدأ الطريق"
لغة تعبر عن القيم الإنسانية
اللغة العربية ليست فقط لغة الحب، بل لغة الأخلاق والشهامة. يقول البارودي:
"فإن تكن الأيامُ قد أثلمتْ ظُبِي
فطالما قد أقالَ الدهرُ ما عثرَا"
ختامًا، هذه النماذج الرائعة من الشعر والأدب الحديث تثبت أن اللغة العربية ليست لغة قديمة تقف عند الماضي، بل هي لغة الحاضر والمستقبل، قادرة على التعبير عن أدق المشاعر وأعظم الأفكار.
لغتنا العربية ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي كنز عظيم يفصح عن ثقافتنا، قيمنا، ومشاعرنا. هي لغة الحاضر والمستقبل كما كانت لغة الماضي المجيد. علينا أن نحافظ عليها، نعتز بها، ونسعى لنقل جمالها للأجيال القادمة...
أحسنت أيها الأستاذ ونفعنا الله بكتاباتك
أحسن الله إليكم و نفع الله بكم
ما شاء الله زادكم الله توفيقا
جزاكم الله خيرا و بارك فى خطاكم
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.