يقول أمين معلوف في مستهل كتابه "غرق الحضارات"، إنه "فيما مضى، كان يتراءى للبشر أنهم زائلون في عالم لا يتغير".. فالحياة بمختلف أبعادها كانت تستمر على حالها لسنين طويلة.
اقرأ أيضاً 10 قواعد لتطوير عملية التوظيف وتحفيز الموظفين، الجزء الأول
الثورة الصناعية وتأثيرها على سوق العمل
ويذكر معلوف كيف أن 12 جيلًا من أجداده ولدوا وعاشوا زمن الإمبراطورية العثمانية حتى إنها باتت بالنسبة إليهم خالدة، أما اليوم، فيتابع معلوف، فإن "البشرية تتحول أمام أعيننا ولم يسبق أن كانت مغامراتها واعدة أو محفوفة بالمخاطر بمثل هذا القدر".
تنطبق هذه الفكرة إلى حد ما على ما تشهده المؤسسات وسوق العمل من تحولات كبرى خلال هذه السنين، فمنذ الثورة الصناعية التي شكلت محطة إنسانية فارقة من حيث التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها، أصبح العمل صلب المؤسسات هو القاعدة بالنسبة إلى الأغلبية من الناس.
وهنا يصف الباحث الفرنسي د. فايس الشركات الكبرى التي ظهرت بداية من القرن التاسع عشر في مجال استخراج الفحم وصناعة الفولاذ والنسيج "بالكاتدرائيات الصناعية".. ذلك أنها كانت تستقطب أعدادًا هائلة من العمال القادمين عادة من الأرياف وتأخذ على عاتقها.
في ظل شح اليد العاملة، الاهتمام بمختلف شؤونهم الاجتماعية من سكن ومأكل وتعليم وعلاج، وهكذا شيئًا فشيئًا، بدأت تجمعات سكنية بالظهور حول هذه الشركات التي تشغل عائلات بأكملها ربما لأكثر من جيل.
اقرأ أيضاً أسس النجاح في مقابلات العمل
العمل وتأثيره على شخصية الإنسان
وفي الحقيقة، لم تكن الصورة تلك الأيام على هذا القدر من الوردية، فيكفي مثلًا أن نستحضر رواية جرمينال لإميل زولا لكي نقف على بشاعة الحياة وقسوتها خلال القرن التاسع عشر، هذه الحياة البائسة التي حملت العمال على الاتحاد للمطالبة بتحسين ظروف العمل تحت تأثير الأفكار النقدية الرافضة لهيمنة رأس المال والتي تعد العلاقة الشغلية استبدادية بالأساس.
ولكن وعلى أية حال، ظل الناس يشتغلون بالمؤسسات والمصانع فلا يغادرونها إلا وقد بلغوا سن التقاعد، ومن هذا المنطلق فإن السنين الطويلة التي يصرفها الإنسان في العمل داخل المؤسسة ليست عديمة الأثر على بنية شخصيته وتصرفاته، بل أكثر من ذلك
فإن المؤسسة نفسها تسعى بأساليب شتى لقولبة حياته، وهنا يشبه الباحث الأمريكي شاين ما يتعرض له الإنسان فور دخوله إلى عالم المؤسسة بغسيل الدماغ، فهو مدعو إلى تبني نواميس المؤسسة وقيمها والتخلي في المقابل عما أتى به من أفكار وعادات لا تتماشى مع ما هو مطلوب منه في العمل.
والفكرة هنا هي أن الإنسان يحل أعزل على المؤسسة بوصفها كيانًا اجتماعيا مستقرا ومتواصلًا في الزمن، فيقبل بالتجرد عن "زوائد" كيانه في سبيل أن يحظى برضاها، وهكذا يتحول العمل إلى فضاء اجتماعي لبناء الهوية الفردية يكاد يتماهى فيه المرء مع المؤسسة فيبحث فيها عن اعتراف الجماعة والانصهار فيها، ثم إن هذا الاعتراف يمتد إلى خارج أسوار المؤسسة ليصير عنصرًا أساسيا في تحديد المكانة الاجتماعية للفرد ومفتاحًا لعقد علاقات أخرى.
اقرأ أيضاً ورقة تخطيط الموارد البشرية تعيين الرسوم المتحركة مقال
العمل وتكوين علاقات إنسانية
من الواضح أن هذا النموذج لا يخلو من أبعاد سلبية لأنه قائم على الهيمنة، هيمنة المجموعة على الفرد وهيمنة الرئيس على المرؤوس وهيمنة الأكبر على الأصغر، ولكن وبصرف النظر عن مشروعية السعي إلى تقويض الجوانب المهيمنة للحياة داخل المؤسسة في سبيل تحرير البشر.
فإن هذا التأقلم مع الحياة داخل مكان العمل وتكوين علاقات إنسانية سليمة داخله يبعث عادة على نوع من الاستقرار يبدو ضروريا لتوازن الإنسان.
ولكن الاستقرار والاستمرار في العمل نفسه حتى التقاعد ذاهب اليوم إلى الزوال وذلك تحت عناوين ومسميات شتى مثل المرونة في العمل وتنمية المسارات الوظيفية وتشجيع المبادرة الحرة وغيرها.
فباسم المرونة مثلًا، أصبح ما يسمى العمل عن بعد آلية شائعة خاصة لدى الشركات النشيطة في مجال التكنولوجيا، إذ تتيح هذه الآلية التي شهدت خلال مدة جائحة كورونا انتشارًا غير مسبوق، للموظف أن يعمل من بيته دون أن يكلف نفسه عناء التنقل إلى المؤسسة، وحري بنا أن نشير إلى أنه لا ينبغي النظر إلى العمل عن بعد على أنه مجرد مرونة متاحة للموظف، بل كطريقة جديدة من طرق تنظيم العمل، من شأنها أن تؤثر تأثيرًا عميقًا في ديناميكية العمل وفي علاقة الموظف بمؤسسته وبزملائه.
في هذا الاتجاه، يعد ﻟ. تاسكين أن العمل عن بعد سيحدث تحركات اجتماعية معاكسة لتلك التي أثارتها الثورة الصناعية، فإذا كانت الأخيرة قد أدت إلى تجمع العمال على أحزمة المصانع، فإن طرق العمل الجديدة ستنتهي إلى فك الارتباط بين العمال ومؤسساتهم، بل أكثر من ذلك، يذهب باحثون آخرون إلى أن الآثار السلبية للعمل عن بعد قد تكون وخيمة خاصة على نفسية العمال نظرًا لحالات العزلة والمعاناة التي تنتجها.
المسارات الوظيفية المتحركة
من جهة أخرى، وإلى جانب العمل عن بعد، ينتشر لدى المؤسسات مديح المسارات الوظيفية المتحركة أي التنقل باستمرار من وظيفة إلى أخرى.. للوهلة الأولى، لا تبدو الرغبة المتواصلة في البحث عن عمل أفضل مشكلة في حد ذاتها، ولكنها تعكس تغلغلًا عميقًا لأيديولوجيا السوق ورأس المال، تغلغلًا بلغ حدا أصبحت معه هذه الظاهرة الحديثة تبدو في منتهى الطبيعية.
يقوم السوق على مبدأ العرض والطلب، وليس العمال من هذا المنطلق إلا سلعة تباع وتشترى حسب قوانين المنافسة، وبناء على هذا، تترسخ في عقل الفرد قناعة مفادها أن قيمته الحقيقية يحددها السوق وهو بالتالي مدعو إلى تنمية كفاءاته باستمرار وإلى عرض نفسه على السوق حتى يظل دائما سلعة مرغوبًا فيها.
غير أن المشكل يكمن في أن هذه الوضعية تولد حالة متواصلة من عدم الرضا على الذات واليأس لأنها تدفع إلى الإسراف في بذل المجهودات من أجل الحفاظ -دون جدوى غالبًا- على مستوى التنافسية نفسه وعلى تلبية متطلبات السوق.
أما الظاهرة الثالثة المنبئة بزوال الاستقرار في العمل، فهي التشجيع على المبادرة الحرة أي أن يصبح المرء مشغل نفسه، وتقوم هذه السردية على تسويق أصحاب الشركات على أنهم قصص نجاح كبرى، غير أن هذه القصص ذات الطابع الرومانسي تخفي عادة الظروف الموضوعية والبنى الاقتصادية والاجتماعية أو حتى السياسية التي كانت وراء نجاح هذه الشركة أو تلك، فتبدو العملية بالنسبة إلى الشباب كأنها مرتبطة بالرغبة في تحقيق الأحلام وبالعزيمة وحدهما.
أما إذا غادر هؤلاء الشباب وظائفهم وانصرفوا إلى بعث مشاريعهم وعقولهم مزدحمة بصور المليونيرات، فإنهم سيواجهون واقعًا معقدًا قائمًا على شبكات من العلاقات والمصالح تحول في الأغلب دون تحقيق أحلامهم الوردية.
مايو 22, 2023, 10:59 ص
مقال أكثر من رائع .
مايو 22, 2023, 6:26 م
شكرا جزيلا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.