بادئ ذي بدء، تُعد ظاهرة الجريمة واحدة من أبشع السلوكيات الإنسانية للإنسانية، فقد اختلف علماء الاجتماع في تحديد دوافع ارتكاب الأشخاص للجرائم التي تتعدد تداعياتها السلبية سواء على مستوى الفرد والمجتمع، بل حتى الدولة، فهي دليلٌ على انخفاض المعايير القيمية والمجتمعية السائدة، هذا من وجهة نظر بعضهم.
اقرأ أيضاً كيفية فهم نظريات علم الجريمة
ظاهرة سيزار لومبروسو في الجريمة
آخرون يرون أن المجتمع نفسه ليس له دخل في ذلك، أي أن مثل تلك الظاهرة التي نُعايشها وتُعايشنا سواء في العالم المادي أو حتى من خلال الأفلام والمسلسلات الترفيهية ذات المعاني الكثيرة.
تكون في أغلب الأحوال مدفوعة أو مُقترنة بنمط سلوكي أو نمط جسدي معين، الأمر الذي برعت معظم الشركات الرائدة في مجال السينما في تجسيده وتوظيفه عبر ظاهرة عدم تناظر الوجه Facialasymmetry بطريقة مرنة لا لبس فيها، لمساعدة صانعي السياسات والقرارات والقوانين على الاستفادة منها وتبنيها في حالة انتشارها وتهديدها للنظام الاجتماعي العام، الذي يندرج تحته النظم الأخرى كافة، كالنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الديني.
فيمكن تعريف السلوك الإجرامي Criminal Behavoir بأنه: سلوك مُنافٍ للقواعد الأخلاقية، وينتهك فيه صاحبه القوانين المعروفة، ويتصرف بطريقة سلبية مخالفة للقواعد والمبادئ السائدة في المجتمع، ويتضمن هذا السلوك أفعالًا تُسبب الضرر للنظام الاجتماعي العام، أما صاحب هذا السلوك فهو مجرم يفعل أفعالًا جنائية وعن سبق الإصرار والترصد.
اقرأ أيضاً كيف نتعامل مع الجرائم ونحد منها؟
تعريف السلوك الإجرامي Criminal Behavoir
يُعرف أيضًا بأنه المظهر الخارجي للركن المادي للجريمة، وهو يأتي في صلب كل جريمة؛ لأن المشرع لا يجرم على مجرد التفكير في الجريمة أو على مجرد الدوافع والنزاعات النفسية.
وإنما يستلزم أن تظهر تلك النزاعات والعوامل الدفينة في صورة واقعة مادية هي الواقعة الإجرامية، فالمُشرِّع لا يستطيع الدخول إلى نفوس البشر ويفتش في تفكيرهم المجرد ليعاقبهم على ذلك، دون أن يتخذ هذا التفكير، وتلك العوامل النفسية مظهرًا ماديًا، ونتيجةً لذلك، فقد حاول عدد من الباحثين معالجة مسألة الجريمة، والسلوك الإجرامي على وجه التحديد.
أحد العوامل التي تسبب كثيرًا من الجدل، هو ما إذا كان نوع الجسم يؤثر بطريقة مباشر في السلوك الإجرامي، وهل من الممكن تحديد من سيكون مجرمًا بمجرد فحص نوع جسم الشخص؟
ويعتقد باحثون مثل ويليام شيلدون وشون مادان وجيفري ت، ولاكر وجي ميتشل ميلر وجود صلة بين الإجرام ونوع الجسم، ويعتقد آخرون مثل كريس ل، جيبسون وكيفن م، بيفر خلاف ذلك، وهي تؤيد الفكرة القائلة إن العوامل البيولوجية والاجتماعية على حد سواء تسبب السلوك الإجرامي، وعلاوة على ذلك، فإنهم لا يوافقون على البحوث التي تعزو السلوك الإجرامي لأنواع معينة من الجسم، ولكن هذا لم يمنع الفكرة من اكتساب زخم في أواخر القرن التاسع عشر.
ناقش علماء الجريمة الأوائل في الولايات المتحدة وأوروبا بجدية ما إذا كان المجرمون لديهم بعض ملامح الوجه التي تفصلهم عن غير المجرمين، وعلى الرغم من عدم وجود بيانات علمية تدعم هذه الفرضية الخاطئة لـ"المجرم المولود"، فإنها أدت دورًا في تكوين المجال الذي نعرفه الآن باسم "علم الجريمة" Criminology.
اقرأ أيضاً الجريمة والعقاب.. أبرز روايات الأدب الروسي
نظرية لومبروسو Lombroso's Theory
في آخر 3 عقود من القرن التاسع عشر تحديدًا في عام 1864 ظهر الاهتمام الكبير من الطبيب الإيطالي سيزار لومبروسو، "CesareLombroso" أو كما يطلق عليه الأب الروحي لعلم الإجرام، بدراسة المجرمين وسلوكهم، فهو أستاذ الطب الشرعي والعقلي في الجامعات الإيطالية، الرائد في النظريات الفردية، وبحكم امتلاك لومبروسو الروح التأملية، فقد ساعده ذلك كثيرًا في تفسير ما يدور حوله من الظواهر وخصوصًا السلوك الإجرامي لدى الأفراد.
وقد لاحظ لومبروسو بأنَّ (الجنود الأشرار يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الأخيار)، وذلك خلال عمله في مجال الطب الشرعي في الجيش الإيطالي لبعض الوقت.
أفكار لومبروسو عن الجريمة
أدت أفكار لومبروسو إلى تحول كبير في الطريقة التي ينظر بها العلماء والسُلطات الغربية إلى الجريمة.. في السابق، كان عدد من مفكري التنوير Enlightenment Thinkers يعتقدون أن البشر يتخذون خيارات بشأن خرق القانون بمحض إرادتهم.
لكن لومبروسو افترض أن جزءًا كبيرًا من المجرمين لديهم جريمة فطرية يصعب عليهم مقاومتها، وقد ركز أتباع هذه المدرسة الفكرية الجديدة على إبعاد "المجرمين المولودين" عن المجتمع بدلًا من السعي إلى إصلاحهم.
ما كان يفعله لومبروسو هو الجمع بين علم الكلى وعلم وظائف الأعضاء، وهما نوعان من العلوم الزائفة التي تهدف إلى شرح شخصية الشخص وسلوكه على أساس جمجمته وملامح وجهه.. وعلى التوالي، كان العلماء المهتمون من قبله قد استخدموا هذه العلوم الزائفة لتعزيز النظريات العنصرية، والآن كان لومبروسو يستخدمها لتطوير مجال "الأنثروبولوجيا الإجرامية".
اقرأ أيضاً الجريمة المقنعة... فمن هي إذن بحق السماء!؟
ما الاختلاف بين لومبروسو وغيره؟
وعلى غرار أسلافه، اعتمد لومبروسو أيضًا على القوالب النمطية العنصرية، "الجفون المائلة، وهي سمة منغولية" و"إسقاط الوجه السفلي والفكين حيث وجدت في الزنوج" كانت بعض السمات التي خصها بأنها مؤشر على الإجرام.
كما حدد لومبروسو أنواع ملامح الوجه التي يعتقد أنها تتوافق مع أنواع محددة من الجرائم، فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، في حين يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الأنف وغالبًا ما يكون أعسر.
وفي عام 2016، نشر باحثان في جامعة شنغهاي جياو تونغ الصينية ورقة تقول إنهما استخدما تقنية التعرف على الوجه لتحديد الميزات التي تتوافق مع الإجرام، وأشار النقاد إلى أن أحد عيوب الدراسة هو افتراضها بأن عدد الأشخاص المدانين بارتكاب جرائم يظهر بدقة عدد الأشخاص الذين يرتكبونها، واقترح لومبريسو أن بعض الرجال يولدون مجرمين، وتشمل هذه النظرية الفكين الكبيرين، والحواجب البارزة و"الآذان على هيئة مقبض".
الجريمة والوراثة
وأكد لومبروسو أن هؤلاء الرجال عرضة "للكسل المفرط، وحب العربدة، والرغبة في الشر التي لا يمكن قمعها من أجل مصلحتها، والرغبة ليس فقط في إطفاء الحياة في الضحية، ولكن في تشويه الجثة، وتمزيق لحمها وشرب دمها".
وفي هذا السياق، رأى أيضًا أن الوراثة وحدها لا تؤدي إلى الجريمة وإنما تؤدي إلى توافر ميل نحو الجريمة ما لم يكن مقترنًا بعوامل معينة قد تُكتسب بعد الميلاد، وقد صنف لومبروسو المجرمين إلى 5 أنماط هي: المجرم بالميلاد، والمجرم المجنون، والمجرم بالعادة، والمجرم بالصدفة، والمجرم بالعاطفة.
وقد أرسى بذلك قواعد ودعائم الاتجاه الأنثروبولوجي في علم الاجتماع، إذ وضع نمطًا بيولوجيًّا أساسيًّا ونفسيَّا تبعيًّا، وعده أساسًا لتمييز المجرم عن غيره.
وبالتوازي مع أفكار لومبروسو، ظهر اتجاه الكروموسومات والعامل الوراثي، وهي محاولات أخرى حاولت ربط الجريمة بنشاط الغدد والمورفولوجيا والكروموسومات، وما ساعد على ذلك هو التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم والدراسات العلمية الخاصة بوظائف الغدد والوراثة وعلم الأجنة، فالاتجاه البيولوجي هو الذي يعطي الدور الجوهري للعوامل الوراثية والجسمية للفرد في إحداث السلوك الإجرامي.
اقرأ أيضاً عن فيلم Dial M For Murder والجريمة الكاملة
تقرير وليام شيلدون عن الجريمة
وقد ذهب وليام شيلدون وهو عالم نفس أمريكي إلى تأييد هذا الاتجاه، إذ ابتدع طريقة للتمييز بين المجرمين وغير المجرمين من جهة نوع الخلايا الجسمية لدى 200 حالة من الأشخاص الجانحين، إذ خلص إلى أن الجانحين يختلفون عن غير الجانحين من جهة الخلايا الجسمية والأنماط المزاجية والنفسية المرتبطة بها، التي تتجه لدى الجانحين نحو انحطاط موروث.
وعامة، يتزايد معدل الجرائم والحوادث وغيرها عندما يوجد سياق خصب كالحروب، وجرائم الحرب مثال حي وواقعي على ذلك.
على الرغم من وجود قول سائد «لا تحكم على كتاب من غلافه»؛ فإننا نتحدى هذا التحذير مرارًا وتكرارًا، ونحن نمضي في حياتنا اليومية للرد على الناس على أساس مظهرهم الوجهي، ويظهر تأثير الوجوه في انطباعاتنا عن الناس وكذلك في سلوكنا تجاههم، مثل من نساعدهم، أو من نوظفهم، أو الذين نطلب منهم موعدًا، ما سيسهم بلا أدنى شك في تعظيم مشكلة شائكة كالعنصرية، لذلك، فإنه يمكن أن ننتقد نظرية لومبروسو بالقول إنها تعمل على تكريس ظاهرة أكثر سوداويةً من ظاهرة «الجريمة» ألا وهي العنصرية، فليس منطقيًا أن يفسَّر ميل الفرد إلى ارتكاب جريمة ما بملامح وجهه.
لا تحكم على الكتاب من غلافه
صحيح أن هذه الفرضية قد لا يتفق معها كثيرون بحكم معايشتهم واطلاعهم على مواضيع تعبر عن مثل تلك الظاهرة في المسلسلات أو حتى الواقع المادي عامة.
لكن الأمر الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة تدخل في تكوينها عوامل أخرى كالعامل البيئي، والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموجودة في بعض الدول النامية بجانب بعض العوامل النفسية التي يكون لها دور في تعظيم حدتها مقارنةً بالأنماط الشكلية، بل إن مثل تلك العوامل النفسية تحمل في طياتها اختزالًا لعوامل قد يكون لها الدور الأبرز في تغير الملامح والسمات الشخصية للأفراد كالاكتئاب والحزن أو السعادة والفرحة، ولذلك رغم وجاهة أفكار لومبروسو التي كانت سائدة بحكم أنه كان طبيبًا في الجيش الإيطالي وأن الجيش ليس لديه شيء ليخسره في خِضَم البيئة القاسية المؤثرة فيه، فإننا نقول إنها تُمثل نوعًا من التراث الفكري البعيد عن الواقع المادي المتطور والمتغير الذي نُعايشه ويُعايشنا الآن.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.