تتغير أهم مهام عملية النمو لدى الأطفال مع نضجهم. على سبيل المثال، يُعد التعلق من أهم جوانب النمو لدى الرضيع، في حين يُعد التفرد من أهم المهام لدى الطفل الصغير. في هذه المقالة نسلط الضوء على نظرية التعلق، مع التركيز على أهمية الدور الذي يقدمه مقدم الرعاية -الأم أو الأب أو من يحل محلهما مثل الجد أو الجدة أو الخالة أو الخال أو العم أو العمة أو المربية-، وعلاقة ذلك بالطفل خلال مرحلتي الرضاعة والطفولة.
أهمية التربية في مرحلتي الرضاعة والطفولة
تبلغ التربية ذروتها في مرحلتي الرضاعة والطفولة. ففي السنوات الأولى من الحياة، يعتمد الأطفال كليًا على مقدمي الرعاية -الأم أو الأب أو من يحل محلهما مثل الجد أو الجدة أو الخالة أو الخال أو العم أو العمة أو المربية- الذين يحددون معظم تجاربهم، ويقرر مقدمو الرعاية، على سبيل المثال، ما إذا كان الرضيع سيُحمل، أو يُتحدث إليه، أو يُتجاهل، وفي أي أنواع الأنشطة سيشارك الطفل الصغير. ونظرًا للمرونة الهائلة للجهاز العصبي البشري خلال السنوات الأولى، توافر هذه المرحلة فرصًا لا مثيل لها للتعلم والنمو التي تدعمها بيئة غنية ولكنها خالية من الضغوط.
فضلًا على ذلك، على الرغم من أن بعض المنظِّرين يجادلون بأن التجارب اللاحقة يمكن أن تُغير مسارات نمو الأطفال تمامًا، لكن كثيرين يؤكدون أن التجارب التي تُكتسب خلال السنوات الأولى من الحياة تُمثل الأساس الذي تُبنى عليه باقي مراحل النمو. وكما هو الحال مع الفائدة المركبة، فإن الاستثمار الذي يقوم به مقدمو الرعاية الدافئون والمنخرطون والحساسون خلال السنوات الأولى من حياة الطفل يؤتي ثماره الضخمة في تنشئة طفل آمن واثق بنفسه.
في الأشهر القليلة الأولى من حياة الطفل، تُركز التربية على توفير الرعاية الأساسية، ويفضل أن تكون من مُقدِّم رعاية ودود ومتجاوب، فحساسية مُقدِّم الرعاية لإشارات الطفل تُساعده في التعلم، وتُنبئ بأمان تعلقه بمُقدِّم الرعاية الذي يُصبح مُنظِّمًا مع نهاية السنة الأولى.
في السنة الثانية من عمره، يصبح الرضيع المُعتمد كليًا على الآخرين طفلًا صغيرًا مُستقلًا بشغف؛ ما يُتيح فرصًا متزايدة للانضباط. وتُواجه الطفولة المبكرة والمتوسطة تحديات جديدة مع ازدياد انفتاح الأطفال على العالم، ويصبح التكيف المدرسي والعلاقات بالأقران أمرًا محوريًا، وحينئذ أيضًا يستفيد الأطفال من الآباء والداعمين.
المراهقة.. مرحلة عاصفة وتوتر!
المراهقة التي كانت تُوصف سابقًا بأنها مرحلة «عاصفة وتوتر»، بات يُنظر إليها الآن على أنها مرحلة تغير ديناميكي، ولكن معظم الأطفال (75-80%) يجتازونها بنجاح. واتسمت هذه المرحلة أيضًا بقطع الروابط بين الآباء وأبنائهم. ومع ذلك، تُظهر الدراسات المعاصرة أن المراهقين يستفيدون من الحفاظ على علاقات وثيقة ومتصلة بوالديهم حتى وهم يتجهون نحو مزيد من الاستقلال.
وقد أشارت الطبيبة النفسية الأمريكية لين بونتون المتخصصة في نمو المراهقين إلى أن المخاطرة جزء طبيعي من الاستكشاف المهم الذي ينخرط فيه المراهقون.
ويؤدي الآباء دورًا حاسمًا في تشجيع أطفالهم على المخاطرة الإيجابية، مثل تجربة الانضمام إلى فريق رياضي، أو الترشح لمنصب في اتحاد الطلاب، أو العمل في مشروع خاص. ويكون المراهقون المنخرطون في مساعٍ صعبة ولكن إيجابية أقل عرضة للانجذاب إلى المخاطرة السلبية، مثل تعاطي الكحول والمخدرات.
أساليب التربية ونتائجها على الطفل
أجرت عالمة النفس الأمريكية ديانا بومريند بعض أشهر البحوث في أساليب التربية، ركزت بومريند وكثير من الباحثين اللاحقين على جانبين مهمين من جوانب التربية: الاستجابة والطلب. ووفقًا لدراستهم، فإن الآباء ذوي الاستجابة العالية يكونون متناغمين وحساسين لإشارات أطفالهم، وتشمل الاستجابة أيضًا الدفء والمعاملة بالمثل والتواصل الواضح والتعلق. ويراقب الآباء ذوو العقليات العالية أطفالهم، ويضعون الحدود، ويطبقون القواعد، ويستخدمون انضباطًا متسقًا ومشروطًا، ويطالبون بنضجهم.
ويُنتج هذان البعدان معًا أربعة أنماط تربية: التسلط (طلب عالٍ، استجابة عالية)، والاستبداد (طلب عالٍ، استجابة منخفضة)، والرفض أو الإهمال (طلب منخفض، استجابة منخفضة)، والتساهل (طلب منخفض، استجابة عالية).
ويميل الأطفال الذين يحظون بآباء أقوياء إلى إظهار أفضل النتائج (مثل النجاح الدراسي، ومهارات التعامل الجيدة مع الأقران، والاحترام الكبير). وينطبق هذا عمومًا على مختلف الأعمار والأعراق والطبقات الاجتماعية وكثير من الثقافات. في المقابل، يميل الأطفال الذين يحظون بآباء مهملين إلى إظهار أسوأ النتائج (مثل الانحراف، وتعاطي المخدرات، والمشكلات مع الأقران وفي المدرسة).
في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ عالم النفس الأمريكي جون جوتمان البحث في تفاعلات الوالدين مع الأطفال، وحدَّد أربعة أنماط من التربية بالتركيز على كيفية تعامل الوالدين مع الحالات العاطفية لأطفالهم، وخاصة المشاعر السلبية، مثل الضيق والغضب. يتجاهل الوالد المتغاضي مشاعر الطفل، وقد ينفصل عن الطفل العاطفي أو يسخر منه، ويريد أن تختفي هذه المشاعر السلبية بسرعة. أما الوالد الرافض فيشبه الوالد المتغاضي، ولكنه أكثر إصدارًا للأحكام وانتقادًا لمشاعر الطفل، وقد يعاقب الطفل العاطفي.
يرتبط كلا الأسلوبين بالأطفال الذين يجدون صعوبة في الثقة بمشاعرهم وفهمها والتحكم فيها. في المقابل، يتقبَّل الوالد المتساهل حالات الطفل العاطفية بحرية، وقد يُقدِّم له الراحة، ولكنه لا يُقدِّم سوى قليل من التوجيه لمساعدته في حل مشكلاته. ويواجه الأطفال الذين يتبعون نهجًا متساهلًا صعوبة في تنظيم عواطفهم، فيُصبحون -على سبيل المثال- غارقين في عواطفهم.
وأخيرًا، يتقبَّل مُدرِّب العواطف الطفل العاطفي ويُراعيه، ويحترم عواطفه دون أن يُملي عليه مشاعره، ويرى في اللحظات العاطفية فرصًا لتربية مُغذِّية وتعليمه حل المشكلات. وليس من المُستغرب أن يُحقق أطفال مُدرِّبي العواطف أفضل النتائج؛ فهم يتعلمون الثقة بمشاعرهم وتنظيمها، وحل المشكلات. ولأنهم يتمتعون بذكاء عاطفي، فإنهم يُحسنون التعامل مع أقرانهم، ويتمتعون بتقدير أعلى للذات.
نظرية التعلق في التربية
ينشأ نهج ثالث للتربية من نظرية التعلق، وهي إحدى أكثر النظريات تأثيرًا في التطور الاجتماعي والعاطفي. وقد أكَّد عالم النفس السريري البريطاني جون بولبي الذي يُعد أبًا لنظرية التعلق، أن الأطفال يُطوِّرون روابط عاطفية عميقة (مُتعلِّقات) مع مُقدِّمي الرعاية المهمِّين في السنوات القليلة الأولى من حياتهم. وتمثل علاقات التعلق هذه التي كانت ضرورية للبقاء في الحياة، والأساس للشعور الناشئ بذاته وأسلوب العلاقة لدى الطفل.
الأطفال الذين يتمتعون بتعلقات آمنة لديهم آباء مراعون ومتجاوبون لاحتياجات الطفل المتعلقة بالتعلق (مثل احتضان الطفل المضطرب)، لكنهم في الوقت نفسه يدعمون استقلاليته، أما الأطفال الذين يعانون تعلقات قلقة فلديهم آباء أقل حساسية، وقد يرفضون احتياجات الطفل للألفة والتعلق، أو يعيقون نمو استقلاليته. ويُظهر الأطفال الآمنون أفضل نتائج في جميع جوانب النمو تقريبًا.
على سبيل المثال، يتمتعون بتقدير أعلى للذات ويتوافقون على نحو أفضل مع الآخرين، بمن فيهم الأقران والمعلمون، أيضًا فهم أكثر مثابرة في المهام المعرفية كحل المشكلات، ويعرفون متى وكيف يطلبون المساعدة. وبصفتهم بالغين، يكون الأفراد الذين يشعرون بالأمان تجاه مشكلات التعلق أكثر ميلًا لتوفير قاعدة آمنة لأطفالهم.
بالنظر إلى هذه الأساليب المختلفة مجتمعة، يُكشف عن جوانب مهمة في التربية المثالية. وليس من المستغرب أن يبدو أن الأطفال يحققون أفضل نتائج عندما يكون الآباء ودودين ومتفاعلين، ومراعين ومتجاوبين لاحتياجات الأطفال، ويساعدونهم في فهم مشاعرهم والتعامل معها بفاعلية. ومن المهم أيضًا أن يراقب الآباء أطفالهم، وأن يحافظوا على التوقعات المناسبة لأعمارهم، وأن يضعوا ويطبقوا حدودًا معقولة، وأن يستخدموا انضباطًا ثابتًا، وأن يدعموا تنمية استقلالية صحية.
عند التفكير في أساليب التربية، من المهم أن نتذكر أن عوامل أخرى، مثل مزاج الطفل وجنسه وسياقه الاجتماعي، تتفاعل مع التربية. وعلى سبيل المثال، قد يستفيد الأطفال الذين ينشأون في بيئات خطرة من مزيد من القيود من جانب والديهم. إضافة إلى ذلك، قد تثير بعض سمات الطفل (مثل رد الفعل أو التمرد) استجابات أبوية معينة (مثل تشديد الرقابة).
ممارسات الانضباط والعقاب للطفل
كثيرًا ما يحدث الخلط بين الانضباط والعقاب. كلمة «انضباط» مشتقة من الكلمة اللاتينية «disciplina» وتعني «التعليم أو التدريب أو المعرفة»، أما كلمة «عقاب» فهي مشتقة من كلمة «poena» وتعني «العقوبة». وبذلك، يشمل الانضباط أساليب يستخدمها الآباء لتعليم الأطفال السلوك المرغوب فيه، في حين يتضمن العقاب إجراءً عقابيًا مصممًا للقضاء على السلوك غير المرغوب فيه. ويتفق علماء التنمية البشرية على أن الانضباط عنصر مهم في التربية المثلى، ويوجد اتفاق أقل بشأن دور العقوبة.
وحددت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال ثلاثة عناصر للتأديب الفعال: علاقة حب بين الوالدين والطفل، والتعزيز الإيجابي لتعزيز السلوك الجيد، وإستراتيجيات للقضاء على السلوك غير المرغوب فيه. وحثت بشدة على تجنب استخدام العقاب البدني، وأيدت بدلًا من ذلك استخدام فترات الاستراحة (فترات الهدوء القسرية) أو إلغاء الامتيازات للقضاء على السلوك السلبي.
العقاب البدني.. نتائج سلبية على الطفل
يرتبط العقاب البدني كالضرب، وخاصةً إذا استُخدم على نحو متكرر أو بقسوة، أو استخدمه آباء يعانون ضعفًا في الود والاستجابة، بنتائج سلبية على الطفل كالعدوانية والاكتئاب. وفي الواقع، عادةً ما يُظهر الأطفال الذين يتعرضون للضرب على نحو متكرر سلوكًا أسوأ لا سلوكًا أفضل مع مرور الوقت. إضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن تُصحح كثير من أنواع العقاب السلوك السيئ على المدى الطويل، مع أنها قد تُسيطر على السلوك على المدى القصير.
في المقابل، ترتبط الأنماط الإيجابية للتأديب بأفضل نتائج على المدى الطويل، كالتنظيم الذاتي، وتقدير الذات، واستيعاب معايير السلوك المناسبة. ويقدم خبراء توجيه الطفل عددًا من الاقتراحات للتأديب الإيجابي، بما في ذلك تهيئة البيئة المناسبة للنجاح (مثل إزالة الإغراءات المحظورة، وتأمين الأطفال)؛ ووضع حدود واضحة وبيانها على نحو إيجابي (مثل «من فضلك امشِ» بدلًا من «لا تركض»)، والاهتمام بالسلوك الجيد والثناء عليه وتقديم القدوة، وتقديم تفسيرات حتى يفهم الأطفال أهمية الامتثال، واستخدام العواقب الطبيعية والمنطقية لتصحيح السلوك السلبي.
يُعد الاستقراء -الذي يتضمن جعل الأطفال على دراية بعواقب أفعالهم على الآخرين- فعالًا على نحو خاص في الاستيعاب والتنظيم الذاتي. وعلى سبيل المثال، سيكون الأطفال الذين يرمون بالونات الماء على السيارات أقل عرضة لتكرار هذا السلوك في المستقبل إذا ساعدهم آباؤهم في فهم العواقب المحتملة لأفعالهم (مثل التسبب في حادث سيارة) مقارنةً باستجابتهم بالصراخ أو الضرب أو استخدام أنواع أخرى من العقاب.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.