نظرة فلسفية على مكنون الإنسان ومعرفته بنفسه

يشهد الوجود بتفصيله وجملته، وينطق التاريخ الطبيعي بلسان حملته، ويقر الإنسان على نفسه بنفسه، بأن الإنسان أبدع الكائنات الأرضية. ومن جهة تركيب جسمه، فهو الصناعة المدهشة للفكر، الباهرة للمدارك، قد ركبت آلاته تركيبًا متناسقًا، لا تجد فيها عوجًا ولا أمْتًا.

تتحرك هذه الآلات كلها حركات منتظمة، خاضعة لمحرك فرد، وناموس واحد، فيؤدي كل عضو وظيفته الخاصة به، ويبلغ بها غاية خاصة.

تركيب جسم الإنسان

عجيب أمر هذا الهيكل الإنساني: حركات دائمة، ومجهودات من أجزائه متواصلة، لا تهدأ طرفة عين، ولا تقف لحظة من الزمان: قلب يرتجف، ومعدة تعمل، وعصارات تفرز، وسوائل تتحلل، وتتركب، وتترشح، وتتصعد.

إليك من جسم الإنسان مثالًا عجيبًا:

للإنسان عين ترسم الأشياء على شبكتها. يعلم كل من رأى التصوير الفوتوغرافي أن المصور يظل يقرب عدسة آلته مرارًا ويبعدها، بعد ما يكون قد أعدَّ لنفسه غرفة ذات أستار محكمة، ونور كافٍ، حتى يضبط البعد المناسب.

أما العين، فإنها قد ترسم لك في الدقيقة الواحدة ستين مرئيًّا منتظمًا، مختلفًا في القرب والبعد، والطول والقصر، والكبر والصغر.

المصور إن لم يتعهد آلته، ولا سيما عدستها الزجاجية بالتنظيف والجلاء كل يوم، فلن تؤدي وظيفتها إلا على أسوأ حالة، أما العين فقد يعمِّر الإنسان مئة سنة، حافظًا لقوة الإبصار، وبلورية عينه لم تطالبه بشيء من ذلك.

عين-الإنسان

ولو أراد صاحبها تنظيفها لما استطاع، بل قد يعيش الإنسان مئة وخمسين سنة ولا يدري من تركيب عينه شيئًا، ولا يخطر بباله أن يسأل عنه غيره.

أما اللمس، والذوق، والمعدة، والأعصاب، والأوتار، والأوردة، والشرايين، والقلب، والرئتان، فمما يحيِّر الفكر، ويُبهر العقل، ويُوقِع الإنسان في الدهشة والحيرة.

هذا حال الإنسان من ناحية جسمه، وأنت تعلم أنه موضوع البحث والفحص منذ ألوف السنين، ولم يزل أعجوبة العلم، ومعجزة الخليقة، وطلسم الكائنات الأرضية.

إذا كانت منزلة الهيكل الإنساني من العالم المادي نهاية الإبداع، وغاية الاختراع، وزهرة الخلق، والدليل الظاهر على وجود الحق، فمكانة روحه من عالم الملكوت السر الإلهي، والنور الرباني، وصورة الجمال الأقدس، والكمال الأقدم.

الإنسان وفهمه للحياة

طُبِع الإنسان على حب إدراك المجاهيل، واكتشاف المستور، وهتك حجب المضمرات من الأشياء، وتاريخه من أول وجوده إلى اليوم، أكبر شاهد على ما نقول.

إذا جاع الإنسان طلبت معدته الغذاء لحاجة الجسم، وكان ألم الطلب على قدر عِظَم الحاجة.

أما طلب الروح للعلم، وحصولها عليه فليس على هذه السنة، بل نراها طالبة للعلم دائمًا، وكلما نالت منه شيئًا، فلا يكون نوالها له مثقالًا من شدة الطلب، بل منميًا لعامله.

ما من إنسان في الوجود إلا وهاله أمر الحياة، وشق عليه شأنها، واحتوشته من أول يوم في ميلاده إلى آخر لحظة من حياته.

الإنسان والحياة

ما التاجر في حانوته يقاول ويبايع، وما الزارع وسط مزرعته يحرث ويزرع، وما الصانع في معمله يتفنن ويجتهد، وما الغني بين أملاكه يحسب ويختزن، وما العاطل وسط الطريق يتمنى في نفسه الأماني، إلا وهو حامل بين جنبيه خطوبًا تضطرم اضطرامًا، وأمورًا تصطك ببعضها اصطكاكًا، لا علاقة لها بأمور جثمانه أصلًا، ولكنه لا يعرف لها تحديدًا، ولا يستطيع لها وصفًا.

كيف يُتصوَّر أن يكون الإنسان، وهو جمال الدنيا وكمال الموجودات، أحوج إلى نادبة تندب حظه، ومُعدِّدة تعدِّد له مصائبه؟

كيف نعلِّل تسفل الإنسان في مطالبه، وإسفافه في ملذات جسده، وسلوكه أخس الطرق لنوال مآربه؟

لقد استعصى أمر الإنسان على نفسه، وعلى القائمين عليه من عقلاء بني جنسه.

كيف يصبح عدوَّ نفسه، وهي أحب الأشياء إليه، ووجودها أعز الوجودات عليه؟ وكيف يضحي بأن لا يأمن بني نوعه، وهم الذين يجب أن يكونوا، كما كانوا من قبل، المكملين لوجوده؟

نعم، أصبح الإنسان عدوَّ نفسه، على علمٍ منه بما أوصلته إليه حياته الشخصية.

فهل حظ النوع الإنساني من الحياة أن توصله المدنية إلى إحلال الرذائل محل الفضائل، واستبدال الحق بالباطل؟

هل يؤول أمر الإنسان شيئًا فشيئًا إلى أن يكون قوام حياته المكر والخديعة، والمداجاة والكذب، والبهتان والمزاحمات؟

هذا ما تنافيه البداهة، وتدحضه المحسوسات، إذن كيف وصل العالم المتمدن إلى هذا الحد؟ وما هي الأدوار التي دخل فيها فجرَّته إليه؟

ومما يزيدنا قلقًا على حالة سجايانا الشريفة، أننا أصبحنا نرى بأعيننا تسرب بعض تلك المكاره إلينا تسربًا غير محسوس!

ألا نشاهد تهالك شبابنا على تعاطي المسكرات، وتعمير أفنية الملاهي والمنتديات العامة، وشغل ساعات فراغهم بالدنايا والسفاسف، ما يدل على حرج في الصدر، وضيق في النفس، وهروب من وجه الحق!

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.