تُعد تونس من أقدم المراكز التعليمية في العالم العربي وإفريقيا، إذ أدى جامع الزيتونة دورًا محوريًّا بصفته مركزًا علميًّا على مدى قرون. كذلك كانت تونس منذ القرن 19 رائدة في تحديث التعليم بواسطة إنشاء المدارس الحديثة مثل المدرسة الحربية بباردو، والمدرسة العلوية والصادقية. ورغم ذلك، يواجه النظام التعليمي في تونس كثيرًا من التحديات التي أثَّرت في أدائه.
عوامل تراجع التعليم في تونس
أول عوامل تقهقر النظام التربوي التونسي -ولعله أهمها- هو اهتراء التشريعات التي تسيِّره التي لم تعد مواكبة لمتطلبات العصر الراهن، وأساسها قانون 1958 الذي أُصدر بُعيد الاستقلال حتى القوانين الإصلاحية اللاحقة، وأبرزها إصلاح 1992 لم يتعدَّ كونه مشروعًا تعديليًّا.
بمعنى آخر يحتاج إصلاح التعليم ثورة تشريعية، قد تكون ماثلة في نوايا الدولة، لكنها تأخرت. فعلى الرغم من مرور عام على اختتام الاستشارة الوطنية لإصلاح نظام التربية والتعليم (أُنجزت سنة 2023) فلم يتم بعدُ الإفصاح عن مخرجاتها؛ وذلك لا يُظهر جدية التعامل مع هذا الملف الحيوي.
ثاني العوامل هو التدهور المتزايد في الاعتمادات المرصودة للتعليم. فقد تراجعت ميزانية وزارة التربية مثلًا من 11% من الميزانية العامة في التسعينيات والثمانينيات إلى حدود 06% بعد الثورة، وهو ما يؤثر في جودة التعليم والبنية التحتية التعليمية.
فقد منع ذلك من إدماج المنظومات والوسائل التعليمية الحديثة المكلفة، وحال دون تعهد المؤسسات التربوية بالصيانة والتوسعة، وإحداث مدارس ومعاهد جديدة بما يتلاءم مع عدد المتعلمين؛ فأصبح الاكتظاظ عامل ضغط يؤخر تنفيذ البرامج التعليمية، ويقلص نجاعتها.
ثالث عوامل التأخر هو تراجع مردودية الإطار التربوي؛ لأسباب متنوعة منها ضعف التدريب، وغياب الحوافز. فتوقف الانتدابات "المؤطرة" والتجاء الوزارة إلى الانتدابات الوقتية لا يمنح أمانًا واستقرارًا لإطار التدريس.
العامل الرابع هو عدم استقرار المناهج الدراسية، وافتقارها للتوجه الواضح، إضافة إلى ابتعادها عن استهداف وتنمية المهارات لدى المتعلم، مقابل تركيزها على الكم المعرفي، وتغلب التقييمات على التكوين.
تأثير الأزمة على المدارس
كل هذه العوامل أسهمت في تهميش المدرسة العمومية؛ ما أدى إلى خلق بديل هو التعليم الخاص الذي تحول إلى مجال استثمار مربح تُضخ فيه استثمارات هائلة محلية أو أجنبية متخفية، فرضت منافسة غير متكافئة بينه وبين التعليم العمومي.
فقد زاد عدد المدارس الابتدائية الخاصة بأكثر من ستة أضعاف بين 2010 و2024 (قفز الرقم من 100 إلى 724) ليتضاعف معه عدد التلاميذ المرسمين في المدارس الخاصة بنحو خمسة مرات خلال المدة نفسها، مقابل استقرار نسبي في أعداد التلاميذ الملتحقين بالمدارس العمومية سنويًّا.
تضمن المدارس الخاصة بما يتوفر لديها من إمكانيات ظروف دراسة مغرية لطلبتها؛ فهي قادرة على انتداب المدرسين بقدر يتلاءم مع عدد التلاميذ. إذ تقدر الإحصائيات الرسمية معدل التغطية في الابتدائي بـ 1 مدرس/ 11 تلميذًا، ولا شك أن ذلك المعدل مثالي مقارنة بما يتوفر لتلامذة القطاع العام.
وبالنسق نفسه غزا الاستثمار في قطاع التعليم الخاص مرحلة الإعدادي، إذ يبلغ عدد المدارس الإعدادية الخاصة بالبلاد اليوم 511 مؤسسة تمَّ إحداث أغلبها بعد ثورة ديسمبر 2010.
أثرت وضعية المدرسة العمومية العليلة على نحو كارثي في عدد المتمدرسين، فقد ارتفعت أعداد المنقطعين عن الدراسة في المستويات التعليميَّة الثلاثة في العقدين الأخيرين بما يفوق الـ 100 ألف تلميذ سنويًّا.
حتى نسبة التمدرس المرتفعة بتونس التي تقدر بـ 75% بالنسبة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة، وترتفع بالتعليم الابتدائي إلى 99% فإنها لا تحجب نزيف الانقطاع المبكر عن الدراسة الناتج عن أمرين، أولهما عجز المدرسة العمومية عن تأهيل كل مرتاديها، وثانيهما عدم توفر الإمكانيات للعائلات الضعيفة والمتوسطة لتحمل تكلفة ترسيم الأبناء بالمدارس الخاصة، وهو ما يفرض على نحو 10% ممن هم في سن الدراسة هجر المدرسة، وأغلبهم من الذكور.
وضع متأزم تعيشه منظومة التعليم العمومي في دولة ما زالت تتبنى في خطابها خيار التعليم المجاني، ولكنه يبقى مجرد شعار في ظل عديد الإكراهات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.