يعاني كثير من الباحثين ويجدون صعوبة في كتابة تاريخ الفترة التي سبقت الإسلام، فيما عُرِف بعصر الجاهلية، وهي الفترة التي امتدت أربعة قرون بين القرن الثالث الميلادي والقرن السابع الميلادي. ويُعزى البعض سبب تسمية عصر الجاهلية (فترة الظلام) إلى تحول التجارة التي كانت تعبر شبه الجزيرة العربية أيام عظمة روما، بعد تدهورها ابتداءً من القرن الثالث الميلادي، وانتقال السوق التجاري إلى بيزنطة، حيث حوَّل البيزنطيون التجارة إلى طرقهم الخاصة.
فقد ذكر جواد علي: "وأما اليونان والرومان ففي الأخبار المدونة في كتبهم عن ذهب الجزيرة وجودته ووفرته واستخراجه قطعًا نقية من مناجمه ووجود الأنهار التي تحمل مياهها أتربة الذهب، وأمثال هذا من قصص ما فيه الكفاية".
وكان للتاريخ أهمية خاصة عند العرب، على الرغم من افتقارهم لأدواته. ويرجع اهتمامهم به إلى ما قبل الإسلام، إذ كان الاعتقاد السائد أن الأمجاد التي حققها الأجداد تعطي الأبناء مكانة مرموقة في المجتمع الذي يعيشون فيه.
التاريخ عند عرب الجنوب وعرب الشمال
ويجب أن نفرق هنا بين التاريخ عند أهل الشمال وأهل الجنوب:
أولًا: أهل الجنوب
فأهل الجنوب (بلاد اليمن) كان من المفترض أن نحصل منهم على مادة تاريخية غزيرة، بسبب أن هذه البلاد كانت مركزًا لحضارة قديمة مستقرة، حفظت آثارها ونقوشها الخاصة بالدولة المعينية، والسبئية، والحميرية.
ولم يصل إلينا سوى قدر بسيط مما يحمل طابع التاريخ المنقول بالسماع، أغلبه يتحدث عن بضعة أسماء لملوك تلك الدول التي قامت في اليمن.
هذا على الرغم من ظهور كتابات في القرن الأول للهجرة، وهي فترة مبكرة من التاريخ الإسلامي، وكان رائدها اثنان من المؤرخين الأوائل، وهما وهب بن منبه، وعبيد بن شَرِيْبَة. وهذان المؤرخان افتقدا بعض خواص الملكة والحس التاريخي.
فقد أخذ ابن إسحاق عن عبيد بن شَرِيْبَة، في حين جمع عبد الملك بن هشام كتاب التيجان لوهب بن منبه الذي أخذ عنه الطبري. أما ابن خلدون فقد أشار في كتاباته إلى مدى السخف الذي اشتملت عليه كتابات وهب.
ويقول هاملتون: "إن هذه القصص التي أوردها الأولون عن بلاد اليمن يشوبها الغموض والمبالغة عن ماضٍ موغل في القدم".
وهو بذلك يُفرِّق بين الروايات الشعبية الأسطورية التي وردت عن بلاد العرب قبل الإسلام، وبين التواريخ العلمية الدقيقة التي ظهرت في القرن الثاني الهجري.
ثانيًا: أهل الشمال
واختلف الأمر عند عرب الشمال، إذ كان لكل قبيلة خصوصية، لأنها تمتلك تاريخًا مرويًّا، قد يكون أعلى كثيرًا من الحقيقة. ولكن هذا الأمر ظل مرتبطًا بفكرة الأنساب عند العرب، وافتخارهم بها فيما بينهم، وكذلك رواية أغلب الحوادث (الأيام) التي شملت حروب القبيلة وانتصاراتها.
ويبدو أن اقتصار عرب الشمال على الروايات الشفهية كان بسبب تفشي الأمية فيهم، خلاف عرب الجنوب. واشتملت هذه الروايات في الشمال على أخبار الآلهة، وحياتهم الاجتماعية، وأمجادهم، وفيها مثلهم العليا كالشجاعة والمروءة والنجدة والعزة... إلخ. وهذه الروايات خُلِّدت بسبب احتواء القصائد الشعرية المحفوظة لها.
وعلى الرغم من اشتمال الرواية العربية على كثير من الأساطير، فإنه بعد الكشف عن آثار اليمن، بدأ مُحققو التاريخ في العصر الحديث التعرف والاعتراف بما في الرواية العربية من حقائق، وعدَّها المستشرقون خيالًا محضًا.
مقال رائع صديقي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.