على الرغم من المرحلة التاريخية الصعبة والتحديات الكبيرة داخل وخارج البلاد، لكن كاترين الثانية استطاعت أن تقود روسيا لتصبح إحدى القوى العظمى في العالم، وتجبر الدول الأوروبية الكبرى على الانحناء لروسيا مع تطورها الاقتصادي والعسكري، وهو ما وضع اسم كاترين الثانية بين أعظم حكام روسيا على الإطلاق، وأصبحت وتسمى (بكاترين العظيمة)، إضافة لكونها ضمن أشهر النساء الحاكمات، وأكثرهم قوة في التاريخ.
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في حياة الإمبراطورة كاترين الثانية؛ لنتعرف على رحلة صعودها إلى السلطة، وكيف استطاعت أن تقود روسيا في تلك الظروف الصعبة، وتنقلها إلى مصاف الدول العظمى خلال مدة حكمها التي تجاوزت الـ34 عامًا.
المولد والنشأة
ولدت (صوفي فريدريكا) يوم 2 مايو عام 1729 في مدينة (شتيغن) في بروسيا الألمانية لوالدها (كريستيان أغسطس) الذي كان قائدًا عسكريًّا في جيش بروسيا، ثم أنعم عليه الملك (فريدريش الأول) بأن يكون حاكمًا على مدينة شتيغن؛ نظرًا للمجهودات العسكرية التي قام بها في حروب (الخلافة الإسبانية).
بينما كانت والدتها (حنا الهولشتاينية) التي تعود إلى أصول دنماركية، وتربطها علاقة نسب بعدد من الأسر الحاكمة في روسيا والدنمارك والنرويج والسويد.
ولدت صوفي في أسرة تبدو وكأنها أسرة نبيلة، لكنها لم تكن بالثراء الكافي الذي يسمح لهم بالعيش مثل باقي النبلاء، لكن أمها كانت تجتهد في إقامة العلاقات مع أفراد الأسر الحاكمة والنبلاء والأثرياء وأصحاب النفوذ، وهو ما مكن صوفي من الارتقاء الاجتماعي بعد ذلك.
كانت العادات في ذلك الوقت تنص على أن يحضر النبلاء والأثرياء في ألمانيا مربيات فرنسيات لأبنائهن، وبذلك تعلمت صوفي على يد المربيات الفرنسيات مجموعة من العلوم المختلفة، مثل الجغرافيا والتاريخ واللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، بجانب الموسيقى والرقص وأصول التعامل في المجتمعات الراقية، وإلى جانب ذلك كانت الفتاة الصغيرة تحب اللعب في الشوارع مع الصبيان، وكانت تتصرف بعفوية كبيرة، وهو ما كان يزعج والديها كثيرًا، إذ كانت تخطط لها والدتها أن تصبح زوجة لأحد الأمراء أو النبلاء في الأقل.
اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. كليوباترا السابعة أشهر ملكات التاريخ
الطريق إلى عرش روسيا
كانت والدة صوفي تسعى لاستغلال كل معارفها، وتبذل كل جهودها؛ من أجل وضع ابنتها على طريق السلطة، وهو ما نجح أخيرًا بعد قبول الإمبراطورة اليزابيث إمبراطورة روسيا في ذلك الوقت بزواج الأميرة صوفي بابن أخيها (بطرس الثالث) الذي سيصبح بعد ذلك إمبراطور روسيا، وعلى الرغم من العلاقة السيئة التي جمعت الإمبراطورة بوالدة الأميرة صوفي، لكنها استمرت في إجراءات الزواج، وكانت معجبة كثيرًا بالفتاة التي وصلت إلى روسيا عام 1744.
استطاعت صوفي بذكائها أن تكسب محبة الجميع في القصر الإمبراطوري، وزادت شعبيتها بين أفراد الشعب الروسي في مدة قصيرة؛ نظرًا لالتزامها بالعادات والتقاليد والقوانين الروسية في ذلك الوقت، كما بدأت في تعلم اللغة الروسية، إضافة إلى القراءة عن التعاليم الأرثوذكسية الشرقية، وبذلت جهدًا كبيرًا في الاندماج السريع، حتى إنها تخلت عن المذهب البروتستانتي، وتحولت سريعًا إلى المذهب الأرثوذكسي، وهو ما أغضب والدها كثيرًا، إذ كان لوثريًّا متدينًا لكن الأمر كان له مردود كبير في الجانب الآخر.
كانت هناك سعادة كبيرة في القصر الإمبراطوري والكنيسة الأرثوذكسية في روسيا بالأميرة صوفي، ومُنِحت اسمًا جديدًا وهو كاترينا، ثم أكملت إجراءات الخطبة بين كاترين وولي عهد روسيا في العاصمة بطرسبرغ في أغسطس 1745، وهي في عامها السادس عشر، في حين كان زوجها في عامه السابع عشر.
في يناير عام 1762 أصبح بطرس الثالث إمبراطور روسيا وبذلك أصبحت كاترين إمبراطورة على البلاد بصفتها زوجته، لكن الإمبراطور كان غريب الأطوار، وكانت علاقته سيئة بقادة الجيش ورجال السياسة، خاصةً عندما عقد معاهدة (صلح بطرسبرغ) مع جيش بروسيا، بالإضافة إلى إعادة كل الأراضي والمكتسبات إلى بروسيا، وهو ما أغضب ضباط الجيش ورجال السياسة، ونفذ بعض الإجراءات المتهورة، مثل مصادرة الممتلكات الخاصة للكنيسة الروسية، وهو ما جعل رجال الدين يدخلون على خط الغضب تجاه بطرس الثالث، واتهم بالجهل والخيانة، ومن ثم بدأ الجميع ينسجون سيناريو الانقلاب على إمبراطور روسيا، وهو ما شاركت فيه كاترين التي كانت تكره زوجها، وتعد لهذا الانقلاب منذ مدة طويلة.
وفعلًا لم يمر على حكم بطرس الثالث أكثر من ستة أشهر، حتى نجحت كاترين في الانقلاب عليه، وأرغمته على توقيع تنازل عن العرش، ثم قُتِل بعد هذه الحادثة بأسبوع واحد بطريقة غامضة، لتجلس كاترين على عرش روسيا في يوم 22 سبتمبر عام 1762، وتُطلق على نفسها (كاترين الثانية)، وتضع ابنها وليًّا للعهد، وكانت أول من يرتدي التاج الإمبراطوري المرصع بالجواهر الذي أمرت بصناعته في على يد صانع فرنسي، ويصبح علامة مميزة للأباطرة الروس من بعد كاترينا الثانية.
اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. حتشبسوت أشهر ملكات مصر الفرعونية
كاترين الثانية إمبراطورة روسيا
مع أنَّ الإمبراطورة كاترين بدأت عهدها بدفع الرُّشى والأموال والهدايا إلى الأشخاص الذين وقفوا معها في الانقلاب، والذين وعدتهم بالمناصب والمكاسب، لكنها أجرت مجموعة من الإصلاحات في مجالات عدة، مثل مجال التعليم والتنظيم الإداري والقضاء، إضافة إلى اتجاهها لتوسيع حدود الإمبراطورية الروسية وذلك بضم الأراضي المحيطة بها في بولونيا والبحر الأسود، إضافة إلى بناء المدن الجديدة التي وصلت إلى أكثر من 150 مدينة بنيت في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية.
أصبحت روسيا في عهد كاترين الثانية أقوى بكثير مما كانت عليه، مع أنَّ الشكل العام للبلاد ظلَّ كما هو في اعتماده على الزراعة، لكنها أيضًا أضافت للنشاط الصناعي، إذ أنشأت مصانع الحديد، إضافة إلى المنشآت الصناعية التي انتشرت في الإمبراطورية الروسية لإنتاج وتصنيع المواد الأولية وتصديرها إلى أوروبا.
ومع أنَّ كاترين الثانية كانت مستنيرة وقارئة جيدة لأفكار الفلاسفة الغربيين التنويريين، لكنها لم تطبق معظم هذه الأفكار في أثناء حكمها، فكانت تعتمد في إدارة البلاد على (نظام القناني)، وهو ما يسمح لطبقة النبلاء والإقطاعيين باستغلال فئات الشعب من الفلاحين والعمال الذين يعملون في هذه القناني؛ وهو ما جعل كثير من المؤرخين ينتقدون سياسة كاترين الثانية، وعدم مراعاتها لحقوق الإنسان ومبادئ المساواة، ويصفونها بأنها كانت تكرس لمبادئ العبودية لمصلحة طبقة الأثرياء والنبلاء.
ويشهد التاريخ لكاترين الثانية قيامها بمجموعة من الإجراءات القوية، مثل إنشاء أول مصرف حكومي الذي استطاعت بواسطته إصدار أول عملة ورقية، إضافة إلى مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها لحماية التجارة والصناعة في البلاد التي ساعدت على زيادة الصادرات، إضافة إلى حظر استيراد عدد من السلع المرتبطة بالرفاهية، مثل النبيذ الفاخر والألعاب، كذلك إجراءات تحديد أسعار السلع الضرورية، ومنع الاحتكار وتوحيد مقاييس البيع والشراء، وإجبار التجار والبائعين والمنتجين على تحسين المنتجات عن طريق الرقابة والإجراءات القانونية الصارمة.
وأدخلت كاترين الثانية مجموعة كبيرة من طرق الزراعة الحديثة التي ساعدت على تعظيم الإنتاج الزراعي الروسي على الرغم من معاناة روسيا من المجاعة في بداية عهد كاترينا، وهو ما واجهته الإمبراطورة بإجراءات قوية، ومنعت تصدير القمح، وأنشأت (الجمعية الاقتصادية الحرة) لمساعدة الفلاحين وإرشادهم وتحسين أحوالهم.
اهتمت كاترين الثانية اهتمامًا كبيرًا بتغيير نظام التعليم في روسيا وذلك بإنشاء برامج تعليمية جديدة على يد علماء من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وكذلك نظام تعليمي جديد للإناث، إذ كانت ترغب في دمج روسيا بأوروبا، وكذلك أسست (ميتم موسكو) الذي كان يهتم بتجميع الأطفال المشردين والفقراء واللقطاء؛ من أجل تعليمهم وتربيتهم على النظريات التعليمية الحديثة، ثم أنشأت (مدرسة النبيلات) المخصصة لتعليم البنات من أبناء النبلاء.
ثم توسعت أعمال المدرسة لتشمل الطبقة البرجوازية، وتعليم اللغات والفلسفة والتاريخ، إضافة إلى التعليم العسكري، إذ بدأت أول مرة في إنشاء ما يشبه المدرسة العسكرية التي تعلم الأطفال جميع العلوم بجانب العلوم العسكرية والقانونية.
وكذلك كانت كاترين الثانية تعتني كثيرًا بطبقة النبلاء وتمنحهم كثيرًا من الحقوق بكونهم الركيزة التي قام عليها حكمها، وكان ولاؤهم هو مصدر قوتها؛ فمنحتهم الإعفاء من الخدمة العسكرية، ومن كل أنواع العقاب البدني في حالة ارتكاب أي خطأ، إضافة إلى الحقوق في إنشاء المنظمات والشركات، وتملك الثروات المعدنية، ومنع مصادرة أراضيهم، ثم انسحب الأمر على كبار التجار، فأعطتهم كثيرًا من الحقوق والمميزات، مثل عدم دفع الضرائب والحرية في الالتحاق بالجيش من عدمه.
أما طبقة الفلاحين والفقراء، فهي الطبقة التي عانت كثيرًا في حكم كاترينا الثانية، إذ كان الفلاحون الأقنان هم الذين يزرعون الأرض، ويقوم على أكتافهم اقتصاد البلاد، لكنهم كانوا كالعبيد؛ إذ يتم بيعهم وشرائهم للعمل في أراضي الإقطاعيين، ولا يستطيعون التحرك خارج الإقطاعية، ولا يملكون أي حقوق في القضاء أو التعليم.
وعلى الرغم من محاولات كاترين الثانية لتحسين أوضاع الفلاحين الأقنان، لكن الأوضاع ساءت أكثر وأكثر، وهو ما جعل المؤرخين يقولون إن كاترين الثانية حاكمة متناقضة تدعي الاستنارة والليبرالية وتمارس الظلم والعبودية.
الحياة السرية الإمبراطورة كاترين العظيمة
على مستوى الحياة الزوجية، فقد كانت كاثرين تكره زوجها منذ أول لحظة، لكنها كانت تسعى للوجود في القصر الإمبراطوري، وهو ما دفعها إلى التحمل وإكمال الزواج، حتى بعد الزواج كانت العلاقة بينهما سيئة، فكانت تعيش في الطرف الآخر من القصر، في حين كان يمارس هو حياته مع محظياته، وحينها خرجت مذكرات الخدم والجنود في القصر بكثير من الأسرار التي تخص كاترين التي أصبحت بعد ذلك الإمبراطورة كاترين الثانية.
كانت كاترين تقضي الوقت في القراءة وركوب الخيل والرقص؛ نتيجة عدم وجود علاقة قوية بينها وبين زوجها بطرس الثالث؛ ما أدى إلى دخولها في عدد من العلاقات الخاصة مع نبلاء وقادة وضباط، حتى كان لها علاقة بملك بولونيا.
وفي هذه الأثناء أجهضت كاثرين مرتين، وفي الحمل الثالث أنجبت ابنها بولس الذي أُخِذ منها؛ بناءً على تعليمات الإمبراطورة الكبيرة إليزابيث في ذلك الوقت وعمة زوجها التي كانت تسعى لتربية الطفل على الطريقة الإمبراطورية، وكانت تسمح لكاترين بأن ترى طفلها على أوقات متباعدة؛ للحفاظ على رابطة الدم، ثم أنجبت كاترين ابنتها حنا التي ماتت بعد أربعة أشهر، لكن الأخبار والإشاعات كثيرة كانت تقول إن بطرس الثالث عقيم، ولا يستطيع الإنجاب، ولذلك كانت كاترين تُتَهم بأنها حملت من رجال آخرين.
هذه العلاقة السيئة بين كاترين وزوجها الذي أصبح بعد ذلك إمبراطور روسيا؛ أدت إلى توسيع دائرة علاقاتها مع مسؤولين بريطانيين، حتى إنها بدأت في تلقي الأموال من بريطانيا مقابل إفشاء أسرار ومعلومات مهمة من البلاط الروسي، وتُشير المعلومات والدلائل التاريخية إلى أن كاترين الثانية حصلت على مبالغ كبيرة من بريطانيا؛ لرشوة الحرس الملكي قبيل الانقلاب على بطرس الثالث مقابل إقامة تحالف بعد ذلك مع بريطانيا.
وفاة كاترين العظيمة
توفيت الإمبراطورة كاترين الثانية أشهر حكام روسيا يوم 6 نوفمبر عام 1796 بعد أن قضت 34 عامًا في حكم الإمبراطورية التي اتسعت في عهدها، وأصبحت في مصاف الدول العظمى، وبعد أن نالت عشرات الأوسمة، وأقيمت لها النصب التذكارية والتماثيل في كافة أنحاء روسيا، التي تم تناول مدة حكمها وحياتها بعد ذلك في عشرات الروايات والكتب والأفلام السينمائية.
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة الإمبراطورة كاترين الثانية نرجو أن نكون قدمنا لك متعة الإضافة، ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.