نساء على العرش.. سيرمافو باندرانيكا أول امرأة حاكمة في العصر الحديث

تُعدُّ الرئيسة السريلانكية السابقة سيرمافو باندرانيكا من الشخصيات التي سيقف عندها التاريخ طويلًا؛ نظرًا لكونها أول امرأة في العالم استطاعت أن تتولى رئاسة دولة دون النظام الوراثي في العصر الحديث، فقادت سريلانكا في الأوقات الصعبة من تاريخها، وكان لها كثير من التوجهات وكثير من الأعداء والمعارضين، وتبعها عدد من النساء اللاتي استطعن تولي الرئاسة في بلادهن.

وفي هذا المقال نأخذك في جولة سريعة في تجربة سيرمافو باندرانيكا السياسية في حكم سريلانكا، إضافة إلى كثير من المعلومات والأسرار عن حياتها في السطور التالية.

المولد والنشأة

ولدت سيرمافو باندرانيكا يوم 17 إبريل عام 1915 لعائلة نبيلة يعمل معظمها في السياسة والحكم، فكانت أمها طبيبة شهيرة، وكان أبوها سياسيًّا معروفًا، ومن بين أقاربها حُكام للأقاليم وشخصيات شهيرة داخل المجتمع السنهالي، في حين كانت سيرمافو باندرانيكا هي الأخت الكبرى لأربعة إخوة وأخت واحدة.

كانت إقامة العائلة دائمًا في قصور راقية، فعاشت سيرمافو باندرانيكا في البداية في قصر مملوك لجدها، ثم انتقلت مع أسرتها إلى قصرهم الخاص، وهو ما يعطيك انطباع عن حياتها في سنها الصغير، إذ كان العلم والاطلاع على الكتب أمرًا سهلًا في مجتمع فقير لا يملك هذه الرفاهية.

وعلى مستوى التعليم، فقد تلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة فيرغسون الثانوية، ثم أرسلت إلى مدرسة داخلية في كولومبو لتتعلم اللغة الإنجليزية بطلاقة، وعلى الرغم من النظام الكاثوليكي الذي كان يحكم هذه المدارس، لكن الفتاة استطاعت أن تحتفظ بشعائرها البوذية طوال الوقت.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. 123 عامًا على عرش هولندا.. الجدة والابنة والحفيدة

حياة سيرمافو باندرانيكا

بدأت حياة الفتاة المتعلمة بالخروج إلى المجتمع والمشاركة في العمل الاجتماعي بواسطة جهود عدة في إنشاء صناعات ريفية؛ من أجل تحسين أحوال المرأة وتوزيع الغذاء والدواء على الفقراء في قرى الغاب، إضافة إلى تنظيم حملات العلاج والعيادات لمساعدة المرضى، وهو ما جعلها وجهها مألوفًا ومحبوبًا في المجتمع السنهالي.

أصبحت سيرمافو باندرانيكا تتولى منصب أمانة صندوق الخدمة الاجتماعية بحكم نشاطها الكبير حتى عام 1940، في حين كان للأسرة نشاط آخر تقوم به، وهو البحث عن زوج مناسب للفتاة، إذ رفضت العائلة أكثر من خاطب؛ نظرًا لكونهم لا يرتقون إلى مستوى العائلة النبيلة، لكن العائلة في النهاية قد وافقت على زواج سيرمافو باندرانيكا من (سولومون وست ريدجواي دياس باندرانايكا) المحامي الذي تعلم في أوكسفورد، ثم أصبح أحد رجال السياسة، وتولى منصب وزير الإدارة المحلية قبل أن يتزوج بالفتاة الطموحة ذات الأصول العريقة في سريلانكا.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. أنا إيفانوفنا إمبراطورة الدماء والجليد

الطريق إلى الحكم

في عام 1948 مُنِح الحكم الذاتي لجزيرة سريلانكا التي عُرِفَت في ذلك الوقت بدولة سيلان، وأصبح لها حكمًا برلمانيًّا برئاسة رئيس الوزراء، وبذلك جاء أول رئيس وزراء لسيلان وهو دادلي سينانايكا، وهي الظروف التي سمحت لسلومون باندرانايكا بالترقي والحصول على أدوار سياسية كبيرة حتى أصبح رئيس وزراء البلاد، وهو ما منح زوجته سيرمافو باندرانيكا الفرصة للمشاركة في صنع القرار، إذ كانت تعمل مساعدة أو مستشارة لزوجها في أثناء حكمه، ما أكسبها كثيرًا من الخبرات السياسية.

في عام 1956 أصدر رئيس الوزراء سلومون باندرانايكا قرارًا بقانون يجعل اللغة السنهالية هي لغة البلاد الرسمية، وهو ما أدى إلى اندلاع صراع كبير بين التاميل والسنهال، وهو ما جعل رئيس الوزراء يسمح بأن تكون لغة التاميل سائدة في بعض مناطق البلاد من أجل تهدئة الثورة، لكنه في غضون ثلاث سنوات كان هناك احتجاجات كبيرة على سياسة رئيس الوزراء، ما أدى إلى اغتياله عام 1959 على يد كاهن سنهالي بوذي، وبذلك أصبح منصب رئيس الوزراء فارغًا، ما مثَّل فرصة تاريخية لسيرمافو باندرانيكا التي استطاعت أن تصبح رئيسة للوزراء في عام 1960.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. الملكة فيكتوريا جدة القارة الأوروبية

سيرمافو باندرانيكا رئيسة الوزراء

بعد أن أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة وزراء حكومة غير وراثية في التاريخ الحديث، كانت لها محاولات عدة لإجراء الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، فكانت تهدف إلى تطبيق النظام الاشتراكي، وتحويل الجزيرة إلى جمهورية اشتراكية، إذ أممت عددًا من القطاعات مثل الإعلام والصناعة والتجارة والتعليم، ثم أصدرت أوامرها بتغيير اللغة الإدارية المعمول بها في البلاد، فكانت اللغة الإنجليزية هي اللغة السائدة، فطُبِقت اللغة السنهالية، وهو ما أثار غضب كثير من المواطنين التاميل الذين لا يتحدثون السنهالية، وبذلك أفقدهم هذا القانون الشعور بالمواطنة.

كانت سياستها في التفرقة بين السنهال والتاميل واضحة، ولم تكن رئيسة الوزراء تخفي هذا التوجه، ما أثار كثيرًا من القلاقل والاعتراضات ضدها، فحاول مجموعة من الأفراد بتنفيذ انقلاب ضدها عام 1962، لكنها نجت واستطاعت البقاء في منصبها، وتمرد مجموعة من الشباب في عام 1971 في محاولة فاشلة لقتلها وقلب نظام الحكم، وهو ما يعطيك تصورًا عن أحوال البلاد في عهد سيرمافو باندرانيكا الذي كان عهدًا صعبًا على مستوى الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في الجزيرة التي تعاني التضخم والضرائب، وتعتمد على المعونات من أجل إطعام السكان، إضافة إلى نسبة البطالة الكبيرة، كل ذلك بجانب التفرقة بين السكان.

في عام 1972 بدأت رئيسة الوزراء في صياغة دستور جديد من أجل المرحلة القادمة التي سعت فيها إلى تشكيل جمهورية سيريلانكا، وفي عام 1975 أنشأت سيرمافو باندرانيكا وزارة لشؤون المرأة والطفل في سريلانكا، وعيَّنت امرأة للإشراف على هذه الوزارة لتكون أول امرأة في منصب وزاري في البلاد، لكن الأوضاع في سريلانكا لم تتحسن، إذ كانت جهود رئيسة الوزراء غير كافية لإيجاد الفرص وتنمية المجتمع الذي يعاني مشكلات عدة، في حين كانت المرأة الحديدية متميزة في العلاقات الخارجية، وقائدة معروفة في السياسة الدولية وعلى مستوى دول عدم الانحياز.

سيرمافو باندرانيكا خارج الحكم

في عام 1977 عُزِلت سيرمافو باندرانيكا من منصبها بصفتها رئيسة للوزراء، وجُرِّدت من حقوقها المدنية، وعاشت المرأة الحديدية أصعب وقت في حياتها بعد أن خرجت من السلطة، إذ اتهمت بانتهاكها للسلطة وللحقوق في أثناء حكمها، وحُكِم عليها بالمنع من العمل العام مدة سبع سنوات، وهو ما جعلها تنزوي وتبتعد عن الحياة العامة مدة من الزمن، وفي المقابل عاشت سريلانكا في كثير من المشكلات، ودخلت البلاد في حرب أهلية طويلة.

في عام 1986 عادت سيرمافو باندرانيكا مرة أخرى إلى المشاركة في العمل العام، وقفزت إلى قيادة الحزب، وحاولت العودة إلى قيادة البلاد، لكنها فشلت في ذلك عام 1988، فاكتفت بدور قيادة المعارضة في البرلمان في المدّة من 1989 حتى 1994، إذ شهدت الأحداث مفاجأة جديدة.

في عام 1993 اغتالت منظمة (نمور تحرير تاميل إيلام) الرئيس في ذلك الوقت (رناسينج بريماداسا)، وهو ما دعا بعد ذلك إلى إجراء انتخابات عامة في البلاد، استطاع بواسطته ائتلاف التحالف الشعبي الذي يقوده حزب الحرية بالفوز، وبذلك تولي قيادة البلاد في المرحلة القادمة، والنبأ السعيد بالنسبة لسيرمافو باندرانيكا أن ابنتها تشاندريكا هي رئيسة حزب الحرية الذي يقود الائتلاف الحاكم، وبذلك أصبحت رئيسة للبلاد.

العودة إلى الحكم

ومع تولي ابنتها رئاسة البلاد عام 1994 عيَّنت والدتها رئيسة للوزراء؛ لتبقى سيرمافو باندرانيكا في المنصب الذي تحبه وتسعى إليه حتى عام 2000، وهي المرحلة التي شهدت عددًا من المعارك الحادة والهجمات الكبيرة لجبهة نمور تحرير تاميل إيلام في مناطق عدة من سريلانكا.

جوائز وتكريمات سيرمافو باندرانيكا

حصلت المرأة الحديدية في سريلانكا على عدد من الجوائز والتكريمات في حياتها وبعد موتها، ومن أبرزها:

  • عدة أوسمة منحتها لها الدول الاشتراكية التي كانت تزورها؛ نظرًا لكونها كانت تنحاز إلى النظام الاشتراكي.
  • أطلق اسمها على عدد من المشروعات والمنشآت المهمة في سيريلانكا.
  • تخليد اسمها عن طريق حفل سنوي يجري فيه توزيع الجوائز على المدارس المتفوقة باسم سيرمافو باندرانيكا.
  • إصدار عدد من الطوابع في سريلانكا تحمل صورة اسم الرئيسة السابقة سيرمافو باندرانيكا.
  • كما فاز فيلم مستوحى من حياتها بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان دكا السينمائي في فئة المرأة في الدورة الـ٢١، وهو ما جعل كثير من الناس يتعرفون على المرأة الاستثنائية سيرمافو باندرانيكا.

من مقولات سيرمافو باندرانيكا

- التاريخ مملوء بأمثلة للعواقب الكارثية التي حلت على مثل هذه الدول التي غيرت دساتيرها بمنح رجل واحد قدرًا كبيرًا من السلطة.

- أعتقد أن الوقت قد حان لي للانسحاب بهدوء من صخب الحياة السياسية المزدحمة إلى بيئة أكثر هدوءًا وسكينة.

- يجب على الشعب التاميلي أن يقبل حقيقة أن الأغلبية السنهالية لن تسمح لنفسها بعد الآن بالتخلي عن حقوقها.

- لم يكن من الممكن أن أحقق أي مجد شخصي لنفسي عندما توليت قيادة الحزب بناء على طلب قادته.

- لقد عرفت من كثب معاناة وبهجة المزارع.

- بصفتي امرأة وأما أدعو دول العالم إلى الامتناع عن العنف في تعاملاتها مع بعضها البعض.

وفاة سيرمافو باندرانيكا

تعلقت المرأة الحديدية سيرمافو باندرانيكا كثيرًا بشؤون السياسة والحكم، وعاشت معظم حياتها على نحو رسمي حتى توفيت يوم 10 أغسطس عام 2000 بعد تقاعدها من منصبها بشهرين فقط، وهي في الـ84 من عمرها، وبعد أن أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة دولة في التاريخ الحديث.

وقد قال عنها المؤرخ السريلانكي الشهير دي سيلفا: (إن إرث السيدة سيرمافو باندرانيكا بعد وفاة زوجها كان كبيرًا، كثير من الارتباك والحزب الذي يوشك أن ينهار، وقد كانت زعيمة غير مجربة لكنها لم تنج فحسب بل دعمت الحزب والأسرة في السياسة).

وقالت عنها الشاعرة ياسمين جونيراتني: (إنها الزعيمة الأكثر قوة وجاذبية التي شهدتها البلاد على الإطلاق).

وفي النهاية نترك الحكم للتاريخ على كفاءة ونزاهة السيدة سيرمافو باندرانيكا التي حاولنا إبراز أهم محطاتها الشخصية والسياسية في هذا المقال الذي نرجو أن يكون قدم لك المتعة والإضافة.

وندعوك لمشاركتنا رأيك في التعليقات عن النساء اللاتي تولين الحكم في العصر الحديث، وأيهن قد أثار انتباهك أو إعجابك، كذلك مشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة