كما أن تاريخ مصر الفرعونية مملوء بالأسرار والحكايات العجيبة والأحداث الهائلة والأمور التي يصعب تفسيرها، فإن الملكة حتشبسوت تُعدُّ إحدى هذه الحكايات العجيبة والعظيمة في الوقت نفسه، فكيف استطاعت تلك الفتاة أن تحكم هذه البلاد القوية وتحكم قبضتها على الحكم بين مؤامرات الكهنة ومنافسة أخيها وتقاليد الحكم في الحضارة الأقدم في التاريخ؟ وكيف أصبح عصرها مثالًا على التقدُّم والسلام والاستقرار؟
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في عصر الدولة الحديثة، وبالتحديد في حياة الملكة حتشبسوت أعظم ملكات مصر الفرعونية؛ لنتعرَّف على أهم المحطات التي مرَّت بها منذ أن كانت طفلة في المدرسة الملكية حتى أصبحت فرعون المملكة المصرية.
مولد حتشبسوت والعائلة
ولدت (خليلة آمون المفضلة على كل الأميرات) (حتشبسوت) عام 1508 قبل الميلاد في القصر الملكي، إذ كان أبوها هو فرعون مصر (تحتمس الأول)، وكانت أمها ملكة البلاد التي كانت تسمى (أحمس) على اسم مؤسس الأسرة الثامنة عشر، وطارد الهكسوس وبطل التحرير الملك أحمس الذي يُعدُّ الجد الأكبر للملكة حتشبسوت.
تعلَّمت الفتاة الصغيرة في المدرسة الملكية داخل القصر الفرعوني التي كانت تلتزم بمجموعة من القواعد الصارمة في تعليم أبناء الملك والأمراء وكبار الوزراء والطبقة العليا في البلاد، إذ كانت لها مواعيد محددة، وكان المعلمون في المدرسة الملكية يلتزمون بالعدل والمساواة والثواب والعقاب دون النظر إلى أبناء الأمراء والوزراء والنبلاء بنوع من أنواع التمييز أو التفضيل؛ لذا كانت حتشبسوت تتعلَّم القراءة والكتابة والعلوم الدينية وقواعد اللغة بصرامة شديدة، وهو ما جعلها تكتسب كثيرًا من المعرفة والثقافة في سن صغير.
طريق حتشبسوت إلى حكم مصر
كانت رحلة حتشبسوت إلى كرسي الحكم تمرُّ بأخيها غير الشقيق (تحتمس الثاني)، فمع أنَّ حتشبسوت هي الابنة الكبرى للملك تحتمس الأول، لكن أخيها تحتمس الثاني هو ولي العهد؛ نظرًا لأن المصريين لم يعهدوا أن تحكم امرأة البلاد، لذلك فقد كان الزواج بين حتشبسوت وتحتمس الثاني هو طريق كل منهما لكرسي الحكم، وهو الزواج الذي أثمر عن ولد وبنتين، وللعلم فقد كان زواج الإخوة والأخوات عادة ملكية لدى الأسر الفرعونية.
كان الملك تحتمس الثاني ضعيفًا بأدائه كفرعون للبلاد، بجانب ضعفه البدني ومرضه الذي جعله واهنًا وغير قادر على مواكبة أعباء الحكم وفرض السيطرة؛ وهو ما أعطى زوجته حتشبسوت الفرصة في أن تفرض سيطرتها على القصر الملكي، وتتحكم في مجريات الأمور على مستوى السياسة وإصدار الأوامر، فكانت هي من تدير البلاد فعليًّا في حين كان زوجها تحتمس الثاني هو الفرعون الشكلي أمام الناس.
مرَّت حتشبسوت بعدد من الأحداث المتلاحقة التي جعلت من مسألة وصولها إلى عرش البلاد معركة كبيرة تحتاج إلى كثير من الدهاء والقوة والحظ أيضًا، فقد مات ابنها صغيرًا، وفي المقابل أنجب تحتمس الثاني ولدًا من إحدى محظيات القصر، وأطلق عليه (تحتمس الثالث) الذي أصبح منافسًا لحتشبسوت في حكم البلاد بعد ذلك، إذ توفي الفرعون المريض تحتمس الثاني وهو لم يتجاوز الـ27 من عمره، وبدأ ابنه الصغير تحتمس الثالث في إزعاج حتشبسوت.
استطاعت المرأة الذكية صاحبة الوعي والثقافة أن تبعد تحتمس الثالث عن حكم البلاد عن طريق مجموعة من الإجراءات التي وضعت حتشبسوت في موضع القوة، ونالت معها مساندة رجال القصر والوزراء وكبار الكهنة، وهو ما أضعف موقف تحتمس الثالث، وعجَّل بإعلان حتشبسوت ملكة على مصر.
في عام 1478 قبل الميلاد أصبحت حتشبسوت ملكة على كل من الدلتا والصعيد، إضافة إلى المستعمرات والممتلكات التابعة للمملكة المصرية خارج الحدود، وهو ما جعل لها اليد العليا في حكم البلاد، وبذلك بدأ اسم حتشبسوت ينقش على الجدران الملكية والمعابد، ويرفق باسمها لقب (ابنة الشمس) و(صديقة آمون) و(ملكة الصعيد)، ولم يكن تحتمس الثالث في الصورة مدة طويلة؛ ما جعل كثير من رجال الدولة يظنون أنها تخلصت منه، لكن حتشبسوت لم تكن تميل إلى القتل والعنف، فقد دفعت به إلى الحياة العسكرية ليتعلم قيادة الجيش وفنون العسكرية في حين انفردت المرأة الحديدية بحكم المملكة الأقدم في التاريخ مدة تزيد عن 21 عامًا.
أهم إنجازات الملكة حتشبسوت
كما أوضحنا أن الملكة حتشبسوت لا تميل إلى العنف والقتال، وهو ما انعكس على معاملاتها السياسية؛ فحتى تحتمس الثالث الذي كان عقبة أمام توليها الحكم، وربما مصدر خطر على بقائها على عرش مصر، فقد قرَّبته منها وزوجته بابنتها (مريت رع حتشبسوت)، وهو ما جعله يتولى حكم البلاد بعد حتشبسوت، ويصنع الإمبراطورية الأكبر في تاريخ الحضارة الفرعونية، وبذلك لم تكن حتشبسوت تهتم بالتوسع العسكري بقدر ما كانت تهتم بالمشروعات الزراعية والتجارية، وتعمل على تحسين أحوال البلاد دون أن يؤثر ذلك على اهتمامها الكبير بتقوية الجيش وتصنيع الأسلحة وإعداد الجنود والقادة، كما لو كانت رجلًا عسكريًّا يملك تجربة وخبرة كبيرة في الحياة العسكرية.
تجلَّت عبقرية الملكة حتشبسوت في اهتمامها الكبير بالتجارة والمناجم والمحاجر وإعادة العمل في مناجم النحاس التي توقفت في أثناء حكم الهكسوس؛ وهو ما أدى إلى ازدهار الاقتصاد المصري في عهد حتشبسوت، ما أدى إلى زيادة مستوى الدخل بين عموم الطبقات المصرية، وبذلك انعكس الأمر على محبة المصريين للملكة حتشبسوت على الرغم من قلقهم في البداية من أن تحكم سيدة البلاد، لا سيما أن الحكم في مصر يختلط بالتقاليد الدينية قبل التقاليد السياسية، إذ يمثل الفرعون ابن الإله.
أعادت الملكة حتشبسوت استخدام قناة سيزوستريس التي أنشأها الملك سنوسرت الثالث في عهد الدولة الوسطى التي تربط البحر الأحمر بنهر النيل، فكانت وسيلة للتجارة مع أهل الجنوب والشمال، وهو ما ساعدها أيضًا على إنشاء السفن الكبيرة؛ من أجل نقل البضائع من ناحية، ونقل الأحجار والمسلات بين المدن المصرية شمالًا وجنوبًا، إضافة إلى البعثات التي أرسلتها حتشبسوت؛ من أجل التبادل التجاري مع الدول المجاورة، حيث شعوب البحر المتوسط شمالًا وبلاد بونت جنوبًا.
من أشهر إنجازات وأعمال الملكة حتشبسوت البعثة التجارية التي أرسلتها إلى بلاد بونت التي نعرفها الآن باسم الصومال، إذ أرسلت البضائع المصرية من الملابس والمصنوعات الجلدية والأواني النحاسية التي كانت تُعدُّ اختراعًا هائلًا في ذلك الوقت، وعادت السفن بالبخور والعاج والحيوانات المفترسة والأخشاب والأحجار الكريمة، وهي الرحلة التي سُجِّلت على جدران (معبد الدير البحري) الذي يُمكنك مشاهدته عند زيارة مدينة الأقصر، وبالتحديد في الضفة الغربية من نهر النيل، حيث يحتفظ المعبد بجماله، وتحتفظ جدرانه حتى الآن بألوانها الزاهية.
وأعطت حتشبسوت الأوامر بإنشاء مسلتين كبيرتين من أحجار الجرانيت الموجودة عند منطقة الجنادل في أسوان؛ من أجل وضعهما في معبد الكرنك تمجيدًا وتعظيمًا للإله آمون، وهما المسلتان الذي سرق نابليون إحداهما في أثناء الحملة الفرنسية على مصر التي يُمكنك أن تراها شامخة في باريس عاصمة فرنسا، وبالتحديد في ميدان الكونكورد، حيث يأتي السياح من كل مكان؛ لمشاهدة عظمة الحضارة المصرية في حين يقف المهندسون والعلماء لمحاولة تفسير كيف نحت المصريون القدماء هذه المسلسلات ونقلوها عبر النيل باستخدام الوسائل القديمة في الرفع والنقل.
حتشبسوت المرأة الجميلة
وكما كانت حتشبسوت ملكة قوية ترسل الحملات العسكرية للحفاظ على وحدة البلاد والقضاء على المتمردين، وترسل البعثات التجارية لتبادل البضائع، وتصدر الأوامر بإنشاء المسلات؛ فقد كانت أيضًا تلبس ملابس الفراعنة الرجال في المناسبات والاحتفالات الدينية والسياسية، وأشارت بعض المخطوطات والتماثيل أنها كانت ترتدي أيضًا ذقنًا مستعارة في بعض الأحيان؛ لتظهر في صورة الفرعون القوي، ومع كل ذلك فإن حتشبسوت المرأة كانت أنثى ذات جمال أخاذ وملامح رائعة، وكانت تميل كثيرًا إلى العطور والروائح، وتحب مشاهد الأشجار والحدائق والزهور.
وفي هذا الصدد فقد انتشرت بعض الأقاويل في كتب التاريخ عن علاقة بين الملكة حتشبسوت والمهندس (سنموت) الذي كان مسؤولًا عن بناء المعابد الملكية في مرحلة حكم الملكة حتشبسوت، وقد أشارت هذه الأقاويل إلى أن الملكة حتشبسوت منحت سنموت عددًا من الألقاب الذي وصل في الأخير إلى 80 لقبًا، إضافة إلى منحه الإذن ببناء مقبرته الخاصة في معبدها بحيث تكون مقبرته قريبة من مقبرتها، وهو أمر عظيم يدل على مكانة المهندس سنموت عند الملكة حتشبسوت، وكذلك فقد عهدت إليه بتربية بنتها الصغيرة (نفرو رع)، لكن الأمر ليس مؤكدًا؛ فلا يوجد بين المخطوطات والنقوشات ما يدل على علاقة ما بين المهندس والملكة التي قد تكون علاقة تقدير، وهو ما يُعدُّ أيضًا من أسرار مدة حكم الملكة حتشبسوت.
وفاة الملكة حتشبسوت
توفيت الملكة حتشبسوت في خريف عام 1457 قبل الميلاد بعد أن حكمت المملكة المصرية نحو 22 سنة، وذلك حسب النقوشات والأدلة التي وجدت، وأثبتت أيضًا أن الملكة حتشبسوت ماتت على نحو طبيعي، ولم تتعرض للمؤامرة أو القتل، إذ يرجح العلماء الذين درسوا المومياء الخاصة بها أنها ماتت بسبب السرطان، أو ربما بسبب حالة متقدمة من مرض السكري، وقد وضع مومياء حتشبسوت بجانب مومياء والدها في مقبرته التي وسعتها هي؛ رغبة منها في أن تدفن بجانب أبيها تحتمس الأول.
وقد حاول الملك تحتمس الثالث بعد توليه الحكم أن يمحو كل آثار الملكة حتشبسوت من على الجدران، والتخلص من كل البرديات والمراسلات التي تحمل اسمها، وبذلك فإن ما وصلنا من تاريخ الملك حتشبسوت يُعدُّ جزءًا صغيرًا جدًّا من تاريخ الملكة الأشهر في بلاد الفراعنة.
كانت الملكة حتشبسوت مثالًا استثنائيًّا بين النساء، وكذلك بين الفراعنة المصريين، وقد أحبها الناس في مصر أكثر مما أحبوا وتعلقوا بعدد من الفراعنة الرجال، والأهم من ذلك والأعظم أثرًا أنهم أحبوا عهدها الذي تميَّز بالسلام والرخاء والرفاهية.
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة أشهر ملكات مصر القديمة الملكة حتشبسوت، نرجو أن نكون قدَّمنا لك المتعة والإضافة في هذا الموضوع، كما يُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.