نساء على العرش.. الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى

لم تكن الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى مجرد امرأة جاءت بها الظروف لتجلس على عرش إنجلترا، وإنما كانت إحدى النساء القويات اللاتي استطعن أن يكتبن أسماءهن في التاريخ بين أشهر الحكام والقادة الذين تعاقبوا على قيادة وحكم الدول العظمى، وعلى الرغم من ضعفها الجسدي ومرضها المزمن وأبنائها الذين ماتوا صغارًا أو في أثناء الحمل؛ فإن الملكة آن كانت قوية وراسخة وحكيمة، واستطاعت أن تكون أول من يحكم بريطانيا العظمى، وتبتعد في أثناء حكمها عن الصراعات الدينية والسياسية.

وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في حياة الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى، وآخر سلالة (آل ستيوارت) في حكم إنجلترا في جولة لن تخلو من المتعة والمعرفة والأسرار المدهشة في السطور التالية.

المولد والنشأة

ولدت الملكة آن يوم 6 فبراير عام 1665 في لندن لأبيها (جيمس الثاني) وأمها (آن هايد)، وكانت الملكة آن هي الطفلة الرابعة بين إخوتها، لكنه لم يبقَ من إخوتها حيًّا سوى أختها الكبرى ماري بعد سنوات عدة، وهو ما جعل الأختين مترابطتين كثيرًا مع أنَّ الفتاة الصغيرة آن قد ابتعدت في أثناء طفولتها؛ إما لإصابتها بمرض في عينيها وسفرها من أجل العلاج في فرنسا، وإما من أجل العادات الملكية التي كانت تقتضي بفصل الأبناء الملكيين في أثناء تعليمهم.

لم تكد الفتاة الصغيرة آن تبلغ السادسة من عمرها حتى توفيت والدتها، واتجه والدها للزواج بأميرة شابة تنتمي إلى المذهب الكاثوليكي مع أنَّ أسرة آن تنتمي إلى المذهب البروتستانتي، وهو ما أدى إلى تحول كبير في اتجاه والدها جيمس الثاني، وكانت تربية الملكة آن على يد عدد من المعلمين والأساتذة الذين منحوها تعليمًا راقيًّا واطلاعًا هائلًا على عدد من الثقافات والعلوم، إضافة إلى خبرات كبيرة في التعامل واتخاذ القرارات، لكن الطابع الديني كان هو الأكثر سيطرة على آن البروتستانتية المعتدلة التي كانت لا تفضل الحديث كثيرًا في أمور الأدب والفن والسياسة مثلما كانت تنفتح على كل ما يخص الدين والكنيسة والشعائر والعبادة.

الطريق إلى عرش إنجلترا

لكي نفهم جيدًا كيف وصلت آن لأن تكون ملكة إنجلترا، ثم ملكة بريطانيا العظمى، لا بد أن نعرف أنها كانت ابنة (جيمس الثاني) شقيق ملك إنجلترا في تلك المدة (تشارلز الثاني) الذي لم يكن يملك أي أبناء يرثون الحكم من بعده، وبذلك كان وريثه هو أخيه (جيمس الثاني) والد آن، لكن جيمس الثاني كان مكروهًا جدًّا؛ بسبب اتجاهاته الدينية، إذ كان يتبع المذهب البروتستانتي، ثم بعد وفاة زوجته الأولى تحول إلى المذهب الكاثوليكي، وتزوج من أميرة كاثوليكية، وهو ما جعله شخصية مكروهة بين أوساط الشعب الإنجليزي، وجعل كثيرًا من رجال السياسة ينزعجون من فكرة توليه حكم البلاد، وإبعاد أصحاب الاتجاهات البروتستانتية عن المناصب ودائرة الحكم.

الأمر الآخر أن إخوة الملكة آن قد توفيا قبل ذلك، ولم يبقَ إلا أختها الكبيرة ماري التي أصبحت بعد ذلك ملكة إنجلترا بجانب زوجها، وبذلك كانت آن هي الوارث الثالث للحكم في عهد عمها تشارلز الثاني الذي توفي عام 1685، ليتولى بعده والد آن حكم البلاد، ويصبح جيمس الثاني حاكم إنجلترا، وهو ما أثار موجة من الذعر والغضب بين طبقات الشعب الإنجليزي المختلفة؛ إذ حاول الملك جيمس الثاني نشر المذهب الكاثوليكي، وإعطاء المناصب العسكرية والإدارية إلى أتباعه من أصحاب المذهب الكاثوليكي، وبذلك اندفع عدد من الكيانات السياسية والدينية للتآمر عليه من أجل عزله من منصبه.

في هذه المدة كانت آن الشابة الهادئة تُمارس شعائرها الدينية البروتستانتية في هدوء، في حين كانت أختها ماري ولي العهد تُقيم مع زوجها في هولندا، وعندما حدث صدام بين آن ووالدها جيمس الثاني ملك إنجلترا الذي حاول إجبارها على اتباع العقيدة الكاثوليكية؛ انهارت آن ورفضت ذلك، وابتعدت عن والدها مدة من الوقت.

في نوفمبر عام 1688 وفي ظل عدة أحداث سياسية وعسكرية متلاحقة سُميت بعد ذلك (بالثورة المجيدة) خُلِع الملك جيمس الثاني من حكم البلاد، واتخذت الإجراءات لوضع الملك وليم وزوجته الملكة ماري على عرش إنجلترا، وبذلك أصبحت آن على خط ولاية العرش؛ نظرًا لأن وليام وماري ليس لديهم أبناء لخلافاتهم في عرش البلاد، إضافة إلى هروب الملك جيمس الثاني إلى فرنسا.

في عام 1694 توفيت الملكة ماري ملكة إنجلترا والأخت الكبرى الآن؛ بسبب مرض الجدري، واستمر زوجها وليم يحكم إنجلترا بمفرده، وهو ما يعني أن الفتاة الهادئة آن هي ولية العهد، وهو ما أدى إلى جلوسها على عرش إنجلترا عام 1702 بعد وفاة ويليام الثالث ملك إنجلترا وزوج أختها الكبرى، وهو ما لاقى ترحيبًا كبيرًا بين طبقات الشعب الإنجليزي؛ نظرًا لميولها البروتستانتية.

الملكة آن على عرش إنجلترا

أصبحت آن ملكة على إنجلترا وهي في السابعة والثلاثين من عمرها، وكان عليها أن تواجه عددًا من التحديات التي بدأت قبل مجيئها إلى الحكم، إذ مات (تشارلز الثاني) ملك إسبانيا، وهو ما أدى إلى نشوب حرب كبيرة بين إنجلترا وهولندا والنمسا من ناحية، وإسبانيا وفرنسا من ناحية أخرى فيما عرف بعد ذلك (بحرب الخلافة الإسبانية).

كذلك كانت صحة الملكة آن تتدهور يومًا بعد يوم؛ فهي منذ طفولتها وهي تعاني ضعفًا عام، إضافة إلى مرض النقرس الذي أصابها بعد توليها الحكم، إضافة إلى السمنة التي أدت إلى معاناة الملكة من العرج، أضف على ذلك 17 مرة حملت فيها آن ومات أطفالها؛ إما أثناء الحمل وإما بعد ولادتهم بمدة قصيرة، وهو ما يوضح لك الحالة الجسدية والنفسية للمرأة التي أصبحت ملكة على إنجلترا.

إنجازات الآن ملكة إنجلترا

كانت الملكة آن شخصية هادئة ومنظمة، لكن أهم إنجازاتها هو إبعاد إنجلترا عن المشكلات الطائفية مع أنها كانت بروتستانتية، لكنها كانت معتدلة ولا تميل إلى محاربة المذاهب الأخرى، وهو ما جعل عهدها عهد استقرار ديني.

أما أبرز الإنجازات السياسية التي يذكرها التاريخ للملكة آن هو توحيد كل من إنجلترا وإسكتلندا تحت اسم بريطانيا العظمى، وأصبحت آن هي أول ملوك بريطانيا العظمى، ومع ذلك فقد كان لكل بلد منهما برلمان منفصل ومذاهب دينية مختلفة.

أصبحت لندن في عهد الملكة آن أكبر مركز اقتصادي في العالم، وبدأت في جذب الاستثمارات المالية، وسحب البساط من تحت أقدام مدينة أمستردام الهولندية، وهو ما يحسب لسياسة الملكة آن التي وفرت المناخ الاقتصادي الذي يسمح بالنمو والتطور.

كذلك كانت الانتصارات العسكرية التي حققتها بريطانيا في أثناء حكم الملكة آن خاصة فيما عرف (بحروب الوراثة الإسبانية) كانت سببًا في زيادة رقعة الإمبراطورية البريطانية لا سيما بعد استيلاء بريطانيا على مضيق جبل طارق، وهو ما ساعد بعد ذلك في كثير من التوسعات الاستعمارية التي صبت اقتصاديًّا وسياسيًّا في صالح بريطانيا.

كذلك يذكر عهد الملكة آن بكونه عهد حرية الصحافة، وارتفاع شأن البرلمان، وتقليل صلاحيات الملك، إضافة إلى ظهور أدوار قوية للوزراء، وهو ما أدى إلى تحولات كبيرة داخل المجتمع الإنجليزي على مستوى الإصلاحات الاجتماعية، وهو و ظهر في تطور العلوم والفنون والفلسفة والآداب.

كذلك أصبحت إنجلترا في عهد الملكة آن هي سيدة البحار، وجرى الحد من قوة فرنسا بكونها سيدة أوروبا، أضف على ذلك التوسعات الإنجليزية في أميركا التي استفادت منها بريطانيا سنوات عدة، وهي انتصارات كبيرة تحسب في الأساس لسياسة الملكة آن.

مساوئ حكم الملكة آن

على الرغم من نجاح الملكة آن في إدارة شؤون البلاد الداخلية، وتحقيق انتصارات خارجية كبيرة، لكن سنوات حكمها شهدت كثيرًا من الانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي والسياسي، إضافة إلى عدد من النزاعات الداخلية.

كذلك على الرغم من الاتحاد مع إسكتلندا، لكن الحروب لم تتوقف بين البلدين، إضافة إلى المشكلات التجارية الكبيرة بين البلدين نتيجة التعريفة الجمركية التي يراها الإسكتلنديون ظالمة، إضافة إلى اعتراض الشعب الإسكتلندي على الاندماج مع إنجلترا.

وعلى مستوى عيوب الشخصية، فإن الملكة آن كانت تحيط نفسها بعدد من الشخصيات الماكرة التي تبحث عن مصلحتها الشخصية، وهو ما جعل كثير من المؤرخين والكُتاب يصفونها بقلة الحكمة والحمق، إضافة إلى أنها سيدة صاحبة شهوات عدة، وفضائح كثيرة تسرب عدد منها إلى طبقات الشعب الإنجليزي، إضافة إلى افتقارها للفطنة العسكرية والسياسية، وهو ما ساعد على تقليل صلاحياتها مع مرور الوقت لصالح البرلمان والوزراء الأقوياء.

وفاة آن ملكة بريطانيا العظمى

أوضحنا من قبل المعاناة الكبيرة للملكة؛ بسبب صحتها والأمراض المتراكمة، حتى إنها أصبحت تعجز عن المشي منذ بداية عام 1714 حتى منتصف العام؛ نتيجة معاناتها من الحمى التي شُفِيت منها، ثم عادت لها مرة أخرى، وهو ما أدى إلى سوء حالتها النفسية، ودفعها إلى العديد من التصرفات والقرارات العصبية.

وبحلول يوم ٣٠ يوليو عام 1714 أصيبت الملكة آن بسكتة دماغية أدت إلى عدم قدرتها على الكلام، وفي صباح يوم 1 أغسطس عام 1714 توفيت الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى، ودُفِنت في معبد هنري السابع بجانب زوجها وجميع أولادها، لينتهي بذلك عهد أسرة ستيوارت، ويبدأ عهد أسرة هانوفر بتولي الملك جورج الأول حكم بريطانيا العظمى.

وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى التي حكمت البلاد مدة 12 عامًا، واستطاعت أن تترك أثرًا كبيرًا وإنجازات مهمة مع أنها امرأة، إضافة إلى جسدها العليل وصحتها الضعيفة، نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة.

ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

مقال متميز.. بالتوفيق
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة