(أعلم أن معظمكم ينظر لي كوني امرأة ذات جسد واهن، ولكنني أمتلك شخصية وعقل ملك، وليس أي ملك، إنما ملكًا يليق بعرش إنجلترا).
هذه الكلمات القوية التي قالتها إليزابيث الأولى في حديثها إلى نواب البرلمان التي تُعبِّر عن ثقتها بنفسها وقدرتها على إدارة البلاد في ظل أصعب الظروف، ولذلك كان عهد إليزابيث الأولى هو العهد الذهبي في إنجلترا، واستطاعت تلك الفتاة أن تبقى على كرسي العرش نحو 45 سنة صنعت فيهن ما لم يصنع الرجال، لتتحول إلى أسطورة في قصائد الشعر الإنجليزي وروايات الكتاب وقصص البحارة سنوات طويلة.
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في حياة إليزابيث الأولى؛ لنعرف كيف استطاعت أن تقود إنجلترا وتحقق عددًا من الإنجازات والانتصارات الداخلية والخارجية في السطور التالية.
اقرأ أيضًا: الملكة رانيا.. شخصية قيادية ونموذج للأنوثة الملهمة
المولد والنشأة
ولدت إليزابيث الأولى يوم 7 سبتمبر عام 1533 لأبيها (هنري الثامن) ملك إنجلترا، وأمها (آن بولين) الزوجة الثانية للملك، وسُميت باسم إليزابيت نسبة إلى جدتها، وعُمِدت يوم 10 سبتمبر لتصبح إليزابيث الوريثة الشرعية لأبيها الملك هنري، لكن الأحداث كانت درامية إلى حد بعيد.
لم تكن الطفلة إليزابيث قد بلغت الثالثة من العمر بعد عندما قُطِع رأس والدتها آن بولين عام 1536، وذلك بعد اتهامها بخيانة الوطن، وبذلك أصبحت إليزابيث ابنة غير شرعية لملك إنجلترا، وهو ما سلبها حقها في ولاية العرش، ثم إن أباها الملك هنري قد تزوج بعد ذلك، وأنجب ابنه الأمير إدوارد الذي أصبح وريثًا شرعيًّا لعرش إنجلترا.
على الرغم من إعلان إليزابيث ابنة غير شرعية، لكنها تلقت تعليمًا ملكيًّا على أعلى مستوى وعلى يد أفضل المعلمين، إذ أتقنت عددًا من اللغات، مثل اللاتينية والإيطالية والفرنسية واليونانية لتصبح إحدى أكثر الفتيات ثقافة في إنجلترا كلها بشهادة كل من تعامل معها في ذلك الوقت؛ وذلك لاطلاعها على كثير من العلوم والمعارف، واهتمامها بالقراءة والمطالعة والنقاش والتحليل، وكأن إليزابيث تحتضر لحكم البلاد.
اقرأ أيضًا: الملكة كريستينا ملكة السويد.. راعية الفنون والأدب
الطريق إلى عرش إنجلترا
كانت كل الظروف تقول إنه من الصعب أن تتولى إليزابيت حكم إنجلترا بعد موت أبيها هنري الثامن عام 1547، فقد جاء بعده أخوها إدوارد السادس الذي لم يبلغ عامه التاسع، لكنه توفي وهو في الخامسة عشر من عمره، وكان قد أوصى بالحكم للسيدة (جين غراي)، واستبعد أختيه ماري وإليزابيث، وهو ما حدث فعلًا، لكن الملكة الجديدة أبعدت عن الحكم بعد تسعة أيام فقط، إضافة إلى الحكم عليها بالإعدام، وقد أطلق عليها الإنجليز (ملكة التسعة أيام)، وبذلك تولت ماري حكم إنجلترا، وظلت إليزابيث تساندها منذ توليها الحكم عام 1553 حتى وفاتها عام 1858.
كان حكم الملكة ماري مملوء بالمشكلات والتحديات؛ بسبب اتجاهات ماري الكاثوليكية الذي جعل الغضب الشعبي يزداد تجاهها يومًا بعد يوم، حتى قامت ضدها ثورة (ويات) عام 1554 التي كانت سببًا في اتهام إليزابيث بالتآمر على ماري وحبسها في برج لندن ومحاكمتها، ثم وضعها تحت الإقامة الجبرية حتى اعترف بأنها وريثة شرعية للبلاد في أكتوبر 1558 قبل أن تتوفى الملكة ماري في نوفمبر 1558.
اقرأ أيضًا: الملكة كليوبترا السابعة.. من هي وما لغز وفاتها؟
إليزابيث على عرش إنجلترا
جلست الملكة إليزابيث على عرش إنجلترا وهي لم تكمل عامها الخامس والعشرين وسط ترحيب كبير من الشعب والقوى السياسية، وقد أعلنت منذ بداية حكمها أنها لن تتسامح أبدًا مع القوى المتطرفة دينيًّا في محاولة للمصالحة بين البروتستانت والكاثوليك، واتجهت سريعًا لعمل عدد من الإصلاحات التنظيمية بذكاء شديد جعل شعبيتها في إنجلترا تزداد يومًا بعد يوم.
لم تكن إليزابيث الأولى تسعى لفرض مذهب ديني محدد على إنجلترا مثلما كانت تنوي أختها ماري، وإنما كانت تتعامل على نحو براغماتي؛ يضمن لها الحفاظ على تأييد الشعب، ومساندة القوى السياسية في مجلس العموم ومجلس اللوردات، إضافة إلى مشكلة كبيرة شغلت الرأي العام في إنجلترا، وهي مسألة زواج الملكة، وهو ما ظلت تؤجله سنة بعد سنة، مع أنَّ عدد الأشخاص الذين عرضوا عليها الزواج يقدر بالعشرات، وكانت الملكة إليزابيث تحتاج إلى إنجاب طفل؛ ليصبح بعد ذلك وريثًا للحكم، لكنها في الوقت نفسه كانت تعيش قصة حب مع رجل يسمى (روبرت دادلي)، وكان متزوجًا، ما صنع وضعًا معقدًا لم تستطع معه الملكة أن تتخذ قرارًا حتى بعد وفاة زوجة (روبرت دادلي)، فقد كان هناك نفور شعبي واستياء كبير من علاقة الملكة بهذا الرجل، ومن ثم كان هناك رفض مسبق لهذا الزواج.
مرَّت السنوات حتى بدأ الشعب الإنجليزي يتقبل فكرة أن الملكة ستظل عذراء ولن تتزوج، وبذلك أطلق عليها لقب "الملكة العذراء"، إذ لم تتزوج فعلًا حتى وفاتها، ويذكر أنها قالت في إحدى خطبها: (يكفيني حجر من رخام ينقش عليه أنه كان هنا ملكة حكمت البلاد بعدل وقوة وماتت عذراء).
أهم إنجازات إليزابيث الأولى
لعلَّ أبرز إنجازات الملكة إليزابيث هو إنهاء الصراعات الدينية التي كانت تمثل أكبر المشكلات في إنجلترا في ذلك الوقت، إذ عملت إليزابيث ما يسمى بـ(التسوية الدينية) في عام 1559 التي شملت مجموعة من القوانين التي سحبت السلطة من بابا الكاثوليك، وبذلك جعلت البروتستانتية هي الديانة الرسمية للبلاد، إضافة إلى عدد من القواعد التي تحكم ممارسة العبادات الدينية والتقاليد الكاثوليكية، وهو ما أدى في الأخير إلى شكل من أشكال الهدوء الاجتماعي والسياسي فيما يخص هذا الأمر.
استطاعت إليزابيت الأولى عن طريق تشجيعها للرحالة والمغامرين والرحلات الاستكشافية أن يكون لها بحرية قوية، إضافة إلى فتح أسواق جديدة للتجارة، واكتشاف عدد من الأمكنة، إضافة إلى محاولات جادة لتكوين مستعمرات لإنجلترا في الخارج، لكنها لم تنجح في ذلك، ولكن الأمر عاد بتطوير كبير في مهارات البحارة والجنود، وهو ما أدى إلى أكبر انتصار في تاريخ البحرية الإنجليزية على البحرية الإسبانية في عام 1588 في معركة (الأرمادا).
استطاعت إليزابيث الأولى أيضًا سداد ديون إنجلترا بالكامل، إضافة إلى التقدم الكبير الذي جعل إنجلترا تمتلك فائضًا ماليًّا هائلًا؛ نتيجة سياسات إليزابيث الإصلاحية، إضافة إلى اتجاهها إلى التجارة وتوسيع الأنشطة الاقتصادية داخليًّا وخارجيًّا، وهو ما لم يحدث في عهد أبيها وإخوتها، وهو أيضًا ما ساعد على ازدياد قوة إنجلترا بعد ذلك حتى الحرب العالمية الثانية.
على مستوى الآداب والفنون فقد كان العصر الإليزابيثي هو أكثر العصور ازدهارًا في الآداب والفنون، وهو ما يعود أيضًا إلى سياسة الملكة إليزابيث الأولى المنفتحة والمتسامحة التي وفرت مناخًا يسمح بالإبداع؛ فظهر في عصرها كُتاب مشاهير مثل ويليام شكسبير وفيليب سيدني وإدموند سبنسر وكريستوفر مارلو، وساعدت قوانين إليزابيث على انتشار الفنون، وعلى رأسها المسرح، إذ أصدرت قانونًا بمنع إغلاق المسارح عام 1580.
وكانت علاقات إنجلترا بالإمبراطورية العثمانية من أهم إنجازات الملكة إليزابيث، فقد أرسلت في عهدها أول سفير إنجليزي في الدولة العثمانية، وجرى توقيع عدد من المعاهدات التجارية، وإرسال المبعوثين، وتبادل الرسائل، إضافة إلى تصدير الملكة إليزابيث للرصاص والقصدير إلى الإمبراطورية العثمانية التي استخدمها العثمانيون في صناعة المدافع والأسلحة والذخائر.
مساوئ عصر إليزابيث الأولى
مع أنَّ عصر إليزابيث الأولى أطلق عليه العصر الذهبي لإنجلترا، لكنه كان يحمل أيضًا بعض المساوئ والعيوب، ومنها على سبيل المثال مشكلة الفقر التي كان يعاني منها معظم سكان إنجلترا، والغريب أنه في ذلك العصر كانوا يتعاملون مع الفقر على أنه مشكلة خاصة وليس مشكلة عامة؛ بمعنى أن الفقير هو المشكلة في فقره، ولذلك لم تكن هناك إجراءات حكومية لمحاربة هذا الفقر إلا في نهاية عهد الملكة إليزابيث خوفًا من الصراعات الداخلية وزيادة مستوى الجريمة؛ بسبب معدل الفقر العالي.
كانت الحملات العسكرية سببًا في تكبيد إنجلترا عددًا من الخسائر المالية التي كان لها تأثير كبير على الإنجليز؛ فزاد معدل المتسولين في الطرق، وانخفض مستوى المعيشة كثيرًا، وبذلك ظهرت نسبة بطالة عالية.
من أسوأ ما فعلت ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى هو نظام الاحتكارات، إذ كانت تلجأ إلى منح شخصيات بعينها احتكارات المنتجات والبضائع، وبذلك كان التحكم في الأسعار على مبالغ فيه لتحقيق مكاسب هائلة، وهو ما أدى إلى تركز الثروة في أيدي طبقة معينة، وبذلك كانت هناك دعوات عدة لتغيير هذه القوانين، إضافة إلى اتهام القصر الملكي بالفساد وزيادة الكراهية من جانب الشعب للأشخاص المقربين من الملكة.
من أقوال إليزابيث الأولى
(أعلم أن لدي جسد امرأة ضعيفة وهزيلة، لكن لدي قلب ومعدة ملك وملك إنجلترا أيضًا، وأعتقد أنه من السخرية أن يجرؤ بارما أو إسبانيا أو أي أمير من أوروبا على غزو حدود مملكتي، وهو ما لن يجلب لي أي عار وسأحمل السلاح بنفسي).
(في الوقت الذي كانت فيه الحروب والفتن والاضطهادات شديدة الخطر تثير انقسامًا بين جميع الملوك والدول من حولي، كان عهدي مسالمًا ومملكتي ملاذًا للكنيسة المنكوبة وأحبطت مكايد أعدائي).
(أنا أحتاج مساعدتكم جميعًا أنا بحكمي، وأنتم بخدمتكم يمكننا أن نقدم عملًا نافعًا يُرضي الله القدير، ويقدم بعض الراحة لأجيالنا القادمة على الأرض، وسأجعل المشورة سبيلي عند اتخاذ القرارات).
وفاة الملكة إليزابيت الأولى
منذ عام 1598 بدأ عدد من الأشخاص المقربين من الملكة إليزابيث في الرحيل، إذ توفي مستشارها الخاص (ويليام سيسل)، لكن الأمر استمر بموت عدد من صديقات الملكة، ما جعلها تدخل في حالة من الحزن والاكتئاب، حتى توفيت (كاثرين كاري) كونتيسة نوتنجهام وصديقة الملكة المقربة؛ ما كان سببًا في إصابتها بصدمة كبيرة جعلتها في حالة من الذهول والصمت مدة طويلة، حتى توفيت يوم 24 مارس عام 1603 في قصر ريتشموند، وأقيمت جنازتها بعد أربعة أيام، ودفنت في مقبرة أختها ماري في (دير ويستمنستر)، وكتب على المقبرة (ترقد هنا الأختان إليزابيث وماري على أمل اللقاء في الآخرة).
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة الملكة إليزابيث الأولى ملكة إنجلترا التي امتد عهدها لحوالي 45 سنة، وسُمِي بالعصر الذهبي لإنجلترا.
نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.