نساء على العرش.. أنا إيفانوفنا إمبراطورة الدماء والجليد

مثلما يشهد التاريخ لبعض النساء اللاتي اعتلين العرش أو تولين حكم البلاد بعدد من الانتصارات والتطورات الكبيرة التي تدل على القوة والحكمة والذكاء؛ فإن التاريخ أيضًا يشهد على جنون وغرابة بعض النساء اللاتي تولين الحكم، وعلى رأسهن أنا إيفانوفنا إمبراطورة روسيا التي جاءت بها الظروف لتجلس على العرش، وتبدأ في سلسلة من الأفعال الجنونية، بالقتل والاستبداد والتعذيب بطرائق تدل على السادية، وغياب العقل مدة عشر سنوات هي مدة حكمها التي امتلأت بالدماء والعقد النفسية التي يرجعها بعض المحللين إلى والدها الذي كان يعاني اضطرابات نفسية وعقلية طوال حياته، أو إلى تجربة زواجها التي انتهت سريعًا.

وفي هذا المقال نتجول معًا في حياة إمبراطورة الدماء والجليد أنا إيفانوفنا؛ لنعرف كيف صعدت إلى عرش روسيا، ونحاول أن نفهم لماذا نفذت سلسلة القتل والنفي والتعذيب، ولماذا سميت إمبراطورة الدماء والجليد في السطور التالية.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. كاترين العظيمة أشهر حكام روسيا

المولد والنشأة

ولدت أنا إيفانوفنا يوم 7 فبراير عام 1693 ابنة لقيصر روسيا (إيفان الخامس) الذي كان يحكم البلاد بمشاركة أخيه الأصغر (بطرس الأكبر)، وكانت أمها سيدة ذات تقاليد صارمة مع أنها من عائلة متوسطة الحال، فإنها كانت ترغب في أن تُربي بناتها الثلاثة وفقًا لمعايير ذات مستوى مرتفع من التدين والأخلاق.

كان والد أنا إيفانوفنا إيفان الخامس يعاني اضطرابات عقلية، وقيل إنه معاق عقليًّا، وهو ما جعل أخاه بطرس الأكبر ينفرد بحكم البلاد، ولكن أنا إيفانوفنا لم تلحق بوالدها، إذ توفي وهي في الثالثة من عمرها ليصبح عمها بطرس الأكبر حاكمًا منفردًا للبلاد في عام 1696.

تعلمت أنا إيفانوفنا أعمال التدبير المنزلي، إضافة إلى الالتزامات الدينية والنصوص القديمة، وتعلمت اللغات الألمانية والفرنسية، إضافة إلى الموسيقى والرقص، لكنها كانت شخصية عنيدة محبة لذاتها، وكانوا يطلقون عليها أحيانًا قبل أن تتولى الحكم (أنا الرهيبة)، وكانت تشتهر بوجهها الممتلئ وخدها الكبير.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. الملكة فيكتوريا جدة القارة الأوروبية

الطريق إلى عرش روسيا

تزوجت أنا إيفانوفنا عام 1710 من (فريدريك ويليام) الذي كان في ذلك الوقت دوق (كورلاند)، وهي المكان الذي يطلق عليه الآن (لاتفيا الغربية)، وقد أكرمها عمها بطرس الأكبر ومنحها مهرًا أسطوريًّا، وأقام لها حفل زفاف كبير في نوفمبر 1710، لكن زوجها الذي كان في السابعة عشرة من عمره توفي بعد أسابيع عدة في مطلع عام 1711، وهو في طريقه إلى بيته في كورلاند.

أصبحت أنا إيفانوفنا حاكمة لإقليم كورلاند، وأقامت في عاصمته (ميتاو) مدة 20 عامًا، ولم تتزوج ثانية، لكن توجد كثير من الشائعات التي ثارت حولها عن علاقات مع المندوب السامي لروسيا، وكذلك مع أحد رجال البلاط الملكي.

في عام 1725 توفي بطرس الأكبر إمبراطور روسيا وعم أنا إيفانوفنا، فنُصِّبَت زوجته (كاثيرين الأولى) لتصبح إمبراطورة روسيا مع أنها كانت خادمة في القصر الملكي، لكنها استطاعت أن تتزوج من بطرس الأكبر، وتعتلي العرش بعد موته لتحكم البلاد مدة تصل إلى عامين وثلاثة أشهر قبل أن تموت في مايو 1727، ويتولى بعدها (بطرس الثاني) حفيد بطرس الأول الذي كان يبلغ وقتها 11 عامًا، وبذلك كان المجلس الاستشاري هو من يحكم روسيا فعلًا.

في مطلع عام 1730 توفي إمبراطور روسيا (بطرس الثاني) وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ متأثرًا بمرض الجدري، وهو ما جعل مسألة اختيار إمبراطور روسيا الجديدة مسألة صعبة، إذ كانت كاثرين الأخت الكبرى لأنا إيفانوفا هي الأحق باعتلاء العرش، لكن مجلس المملكة الروسي الأعلى قد وقع اختياره على أنا إيفانوفنا لتكون إمبراطورة روسيا الجديدة بشروط خاصة.

كانت الوضع الاجتماعي لأنا إيفانوفنا ميزة كبيرة للمجلس الملكي، إذ لم تكن متزوجة، ولم يكن لها أبناء يطالبون بالعرش بعد ذلك، كما كانت أختها كاثرين مطلقة ولها أبناء، وهو ما كان مصدر قلق كبير للمجلس الملكي الذي يرغب في حكم البلاد بواسطة شخصية ضعيفة ذات قدرات محدودة، وهو ما بدا في وقتها ينطبق على أنا إيفانوفنا.

وضع المجلس وثيقة ممتلئة بالشروط التي يجب أن توافق عليها أنا إيفانوفنا من أجل تولي حكم البلاد، إذ تنص الوثيقة على ألا تفعل الملكة أي شيء إلا بالرجوع للمجلس؛ فلا تستطيع إعلان الحرب، أو تعيين كبار المسؤولين، أو معاقبة النبلاء، أو فرض الضرائب إلا بموافقة المجلس، وهو ما وافقت عليه أنا إيفانوفنا لتنتقل إلى العاصمة الروسية وتتولى حكم البلاد في فبراير 1730.

اقرأ أيضًا: نساء على العرش.. الملكة آن ملكة بريطانيا العظمى

أنا إيفانوفنا إمبراطورة روسيا

بعد وصول الإمبراطورة الجديدة إلى كرسي العرش بدأت في اتخاذ إجراءات معاكسة؛ ليظهر وجهها الحقيقي ورغبتها في التخلص من مجلس الملك السابق، إذ حلَّت المجلس الأعلى وأمرت بالقبض على معظم أفراده، وأنكرت شروط الاتفاقية، وبدأت في تولي الحكم المطلق، ونفت عددًا من أعضاء المجلس إلى سيبيريا ليموتوا بردًا، وأعدمت مجموعة أخرى عن طريق المشنقة، ليبدأ عهد أنا إيفانوفنا إمبراطورة الدماء والجليد.

كانت آنا إيفانوفنا شخصية غريبة قاسية تسخر من الجميع، ولا تقيم وزنًا لأحد، كما كانت لا تعترف بالقانون، فكانت تفعل ما تريد وقتما تريد، وقيل عنها إنها كانت غريبة الأطوار، كما كانت تحمل كثيرًا من العداء تجاه العلاقات الزوجية الطبيعية، حتى إنها عاقبت الأمير (ميخائيل جوليتشين) الذي تزوج بفتاة إيطالية، وغيَّر مذهبه، واعتنق الكاثوليكية، وترك الأرثوذكسية.

فقد أقدمت الإمبراطورة على اعتقاله، وطرد زوجته من البلاد؛ لتجعله عبرة لغيره، كما جرَّدته من ألقابه وأراضيه، وعيَّنته مهرجًا في البلاط، كما أرغمته على الزواج من خادمة قبيحة.

من الحكايات التي تُحكَى عن أن إيفانوفنا أيضًا، أنها كانت تمتلك قصرًا من الجليد بُنِي عن طريق الجيش الذي كُلف بسحب كتل عملاقة من الجليد في نهر نيفا المتجمد لتشييد القصر الذي بلغ ارتفاعه 30 قدمًا، ويقال أيضًا إنها أرسلت الأمير (ميخائيل غولتشين) والخادمة القبيحة في ليلة الزواج ليبيتا في القصر بلا ملابس؛ ليموتا من البرد، لكنهما استطاعا الحصول على ملابس من أحد الحراس مقابل عقد من الذهب، وهو ما فاجأ الإمبراطورة التي أطلقت سراحهما في اليوم التالي.

أحوال روسيا في عهد أنا إيفانوفنا

كان عهد الإمبراطورة آنا إيفانوفنا مُستقرًا إلى حد ما على مستوى السياسة الداخلية؛ نظرًا لأنها لم تكن تهتم بشؤون الحكم، وإنما كانت الأمور تدار بواسطة النبلاء الألمان الذين استعانت بهم في حكم البلاد.

بينما كان الكونت بيرون هو الرجل الأهم في البلاط الإمبراطوري، ويقال إنه كان رجلًا سادي الطباع، وتسبب في عدد من حالات الإعدام التي وصلت إلى ألف حالة، ونفى أكثر من 20 ألف معارض إلى سيبيريا، وبذلك كانت الحاشية والمستشارين المحيطين بالإمبراطورة لهم اليد الطولى في البلاد.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، فقد دخلت روسيا في بعض الصراعات في أثناء حكم الإمبراطورة أنا إيفانوفنا، ومن أهمها الحرب ضد الدولة العثمانية على مدار أربع سنوات ما بين 1735 حتى 1739، وهو ما أدى لآلاف القتلى، إضافة إلى فرض كثير من الضرائب على الطبقة العاملة، وكان الشعب الروسي ينظر إلى أنا إيفانوفا كونها امرأة قاسية وبشعة وسادية، وهو ما لم تسعَ أبدًا الإمبراطورة إلى تغييره.

وأسهمت أفعال أنا إيفانوفا من عقوبات قاسية تتمثل في الضرب بالصوت المعدني وقطع الأنف، إضافة إلى اضطهادها لأصحاب الإعاقة وسخريتها منهم، كل ذلك أسهم في كراهية كبيرة لعصر أنا إيفانوفا، وهو ما جعل الشعب الروسي يحتفل بموتها، وقبض النظام اللاحق على عشيقها الكونت بيرون وأعدم في بداية عصر جديد للبلاد.

نهاية أنا إيفانوفنا

بعد وقت ليس بالطويل من بناء القصر الجليدي، بدأت أنا إيفانوفنا تعاني مرض الكلى الذي أصبح عذابها الشديد وموتها البطيء، فحاولت في آخر أيامها أن تضع ابن بنت أختها (إيفان السادس) وليًا للعهد؛ ليتولى عرش البلاد من بعدها، لكنها فشلت في ذلك لتموت الملكة القاسية يوم 28 أكتوبر 1740 عن عمر ناهز 47 عامًا بعد أن حكمت روسيا عشر سنوات، لتترك خلفها ميراثًا من الكراهية واللعنات المتواصلة؛ نتيجة القسوة والظلم وغرابة الأطوار التي تميَّزت بها أنا إيفانوفنا إمبراطورة الدماء والجليد.

وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة الإمبراطورة الروسية صاحبة الطباع الغريبة والحكايات الأكثر غرابة أنا إيفانوفنا، نتمنى أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة