لم يحظَ شاعر عربي حديث بشهرة وانتشار نزار قباني الآسر الذي وصلت كلماته إلى قلوب الملايين عربيًّا وعالميًّا، فقد قاد هذا العملاق الشعري ثورة جريئة في عالم الغزل والحب، ثم اقتحم ميدان النقد السياسي بشجاعة غير مسبوقة، حتى مُنعت أشعاره ليقرأها الناس سرًا، فازدادت شهرته لهيبًا. انطلق معنا في جولة استثنائية عبر عالم نزار قباني الساحر، لتكتشف أهم محطاته الشخصية والإبداعية وحقائق مدهشة لم تكن تعرفها عن حياته الثرية.
نزار قباني المولد والنشأة
ولد نزار قباني في حي (مأذنة الشحم) بمدينة دمشق السورية لأسرة ذات تاريخ فني وأدبي، فقد كان جده خليل القباني أحد رواد المسرح العربي، إضافة إلى ميل والده إلى الشعر، وهو ما كان له تأثير كبير في نزار قباني الذي مارس عددًا من ألوان الفنون في طفولته بين الرسم والخط والموسيقى والشعر، فحفظ أشعار الشعراء الكبار على غرار طرفة بن العبد وقيس بن الملوح وعمر بن أبي ربيعة، وتعلم أصول النحو على يد الشاعر الكبير خليل مردم بك.
بدأ نزار قباني كتابة الشعر وهو في السادسة عشرة من عمره، والتحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1941، وحصل على شهادته عام 1945، ثم بدأ عمله في السلك الدبلوماسي، فتنقل بين البلدان المختلفة 20 عامًا قبل أن يقدم استقالته عام 1966.
محطات في حياة نزار قباني
بدأ نزار قباني حياته العملية مبكرًا، فقد عيّن سفيرًا في القاهرة وهو في الثانية والعشرين من عمره، وفي عام 1952 أصبح سفيرًا لبلاده في المملكة المتحدة قبل أن ينتقل إلى تركيا؛ ليصبح سفيرًا لسوريا هناك، ثم أصبح سفيرًا في الصين، ثم سفيرًا في إسبانيا قبل أن يستقر في بيروت، ويقدم استقالته من الحياة الدبلوماسية، ويعلن تفرغه للشعر والحياة الأدبية.
من أهم المحطات التي مر بها نزار قباني في حياته وفاة شقيقته (وصال) التي انتحرت بعد زواجها من شخص لم تكن تحبه بعد أن أجبرها أهلها على هذا الزواج، ما كان له تأثير كبير في بناء نزار قباني النفسي، وربما كان سببًا في تكوين فلسفته الخاصة بالحب، وقناعته بحرية المرأة وانحيازه لها في الصراع لتحقيق ذاتها، ولم يكن الأمر بسيطًا، فقد قال له الأهل إن أخته قد توفيت بسبب مرض قديم في القلب، لكنه عرف بعد ذلك أنها ماتت منتحرة، وكتب في مذكراته يقول: «صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي، كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية».
كذلك كانت علاقة نزار قباني بوالدته ذات تأثير كبير في حياته، فقد كان متعلقًا بها بصورة غريبة، فقد قيل إنها كانت ترضعه من صدرها إلى أن بلغ السابعة من عمره، وكان معتادًا أن تطعمه بيدها وهو في الثالثة عشرة من عمره إلى درجة أن كثيرين ممن تحدثوا عن سيرة نزار قباني قالوا إنه يعاني عقدة أوديب، واعتمدوا في ذلك على القصائد المتعددة التي كتبها تعبيرًا عن حنينه إلى أمه.
وعلى مستوى الحياة الشخصية تزوج نزار قباني مرتين؛ كانت المرة الأولى عندما تزوج ابنة خاله (زهراء أقبيق)، ورزق منها توفيق وهدباء، وقد كانت وفاة ابنه توفيق عام 1973 صدمة كبيرة له، فقد كان الفتى طالبًا في كلية الطب بجامعة القاهرة، أما الزواج الثاني فهو من (بلقيس الراوي) ذات الأصل العراقي التي لقيت حتفها في أحد الانفجارات التي استهدفت السفارة العراقية في بيروت حيث كانت تعمل عام 1982 في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وقد أنجب نزار قباني من بلقيس عمر وزينب، وكان لموتها تأثير كبير في نزار قباني بالسنوات اللاحقة، فقد قرر ألا يتزوج بعدها أبدًا.
نزار قباني شاعر الحب والسياسة
بدأت موهبة نزار قباني بالظهور عام 1939 وهو في السادسة عشرة من عمره، فقد نشر ديوانه الأول حينها وهو طالب في الجامعة بعنوان (قالت لي السمراء)، وعلى الرغم من أن الديوان طبع في نسخ محدودة، وعلى نفقته الشخصية، فإن قصائده أثارت ضجة كبيرة على المستوى الأدبي والمستوى الاجتماعي، وانتشر اسم نزار قباني بعدّه شاعرًا إباحيًا، وهاجمه النقاد بشراسة، لكن هذا الهجوم ساعد على انتشار الديوان وذيوع اسم نزار قباني في أنحاء سوريا.
كان نزار قباني قد بدأ تجربته الشعرية بكتابة الشعر العمودي، ومنها انتقل إلى شعر التفعيلة ليصبح أحد فرسان المشهد العربي، وأحد شعراء القصيدة الحديثة، لكن الطابع الرومانسي كان غالبًا على دواوينه الأولى مع انشغاله بقضية حرية المرأة في المجتمع العربي، لكن أحداث حرب عام 1967 كان لها تأثير كبير في تجربة نزار قباني الشعرية، فقد بدأ بكتابة الشعر السياسي، ثم تحول إلى قصائد ينقد فيها الأنظمة والحكومات العربيةعمومًا، والنظام السوري خصوصًا.كانت دواوينه السياسية سببًا في اكتساب نزار قباني مزيدًا من متابعة شرائح أخرى، وإن لم تكن من جمهور الشعر، لكنها احتفت كثيرًا بقصائده السياسية كالتي في ديوان (هوامش على دفتر النكسة)، وديوان (يوميات سياف عربي)، لا سيما مع مناخ الهزيمة الذي ساد بعد النكسة، والصدمة الكبيرة التي عاشها المواطن العربي بعد الإحساس بالتفوق واقتراب النصر.
وكان لقصائده تأثير كبير في الواقع السياسي والاجتماعي العربي، على سبيل المثال قصيدة (خبز وحشيش وقمر) التي أثارت جدلًا كبيرًا في سوريا حتى وصل الأمر إلى البرلمان السوري، ومطالبة بعض رجال الدين بقتل نزار قباني، وهو الأمر الذي أدى إلى اتجاه نزار قباني إلى إعادة نشر القصيدة خارج سوريا، ورغم هذا الجدل الكبير أطلقت محافظة دمشق اسم نزار قباني على الشارع الذي ولد فيه نظرًا لقيمته الكبيرة شاعرًا ومفكرًا وأديبًا عربيًا.
كان أكثر ما يميز شعر نزار قباني إلى جانب جرأته الشديدة في اقتحام الموضوعات واستخدام المفردات تلك اللغة الشعرية المميزة ذات الجاذبية الخاصة والموسيقى العالية، وهو ما جعلها سهلة التداول والحفظ والترديد بين شرائح وطبقات مختلفة من الجمهور العربي، وهو ما دفع كثيرًا من المطربين إلى غناء عدد من قصائد نزار قباني للاستفادة من هذا الزخم وهذه الجاذبية العالية.
قالوا عن نزار قباني
لم يكن نزار قباني شاعرًا عاديًا في عالم الشعر العربي، وإنما كان الشاعر الأكثر شهرةً وجدلًا في القرن الـ 20، وكان التعامل معه بعدّه ظاهرة ثقافية واجتماعية ومدرسة شعرية خاصة ومتفردة، فأطلق عليه حسين بن حمزة لقب رئيس جمهورية الشعر، وقال عنه الأديب المصري أحمد عبد المعطي حجازي: «إنه شاعر حقيقي صاحب لغة خاصة، يتمتع بالجرأة في اختيار المفردات والموضوعات».
وقال الشاعر علي منصور: «إن نزار قباني أحد القلائل الذين حفروا اسمهم في الذاكرة الجماعية، فقد صنع حالة خاصة لدى الجمهور العربي»، وأطلق عليه لقب عمر بن ربيعة العصر الحديث، وقال الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة عن نزار قباني: «لقد نقل موضوع الحب من الوصف الخارجي إلى موضوع خاص جدًّا في الشعر العربي الحديث حيث لا يشبهه أحد».
أما الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم فقال عن نزار قباني: «لقد قدم قباني على المستوى الفني للغة الشعرية العربية ما لا يمكن أن يقال إن عمر بن ربيعة قد قدمه»، وفي السياق الثوري الاجتماعي قضى نزار قباني حياته في محاولة الانتقام من البنية الاجتماعية الفظة التي تتعامل مع المرأة كأنها قطعة أثاث في المنزل؛ لذا نجد أن لؤلؤة نزار قباني الشعرية تبدأ بالسكين التي قتلت شقيقته لظرف اجتماعي.
أعمال نزار قباني
ترك نزار قباني إرثًا شعريًا كبيرًا وصل إلى 36 ديوانًا، بالإضافة إلى أعماله الفكرية والنثرية، ومسرحية وحيدة كتبها في لبنان، ولعل أبرز أعماله المنشورة ما يأتي:
في مجال الشعر
- قالت لي السمراء عام 1944.
- طفولة نهد عام 1948.
- سامبا عام 1949.
- أنت لي عام 1950.
- قصائد عام1956.
- حبيبتي عام 1961.
- الرسم بالكلمات عام 1966.
- يوميات امرأة لا مبالية عام 1968.
- قصائد متوحشة عام 1970.
- كتاب الحب عام 1970.
- 100 رسالة حب عام 1970.
- أشعار خارجة عن القانون عام 1972.
- أحبك أحبك والبقية تأتي عام 1978.
- إلى بيروت الأنثى مع حبي عام 1978.
- كل عام وأنت حبيبتي عام 1978.
- أشهد أن لا امرأة إلا أنت عام 1979.
- اليوميات السرية لبهية المصرية عام 1979.
- هكذا أكتب تاريخ النساء عام 1981.
- قاموس العاشقين عام 1981.
- قصيدة بلقيس عام 1982.
- الحب لا يقف على الضوء الأحمر عام 1985.
- أشعار مجنونة عام 1985.
- قصائد مغضوب عليها عام 1986.
- سيبقى الحب سيدي عام 1986.
- ثلاثية أطفال الحجارة عام 1988.
- الأوراق السرية لعاشق قرمطي عام 1988.
- السيرة الذاتية لسياف عربي عام 1988.
- تزوجتك أيتها الحرية عام 1988.
- الكبريت في يدي ودولاتكم من ورق عام 1989.
- لا غالب إلا الحب عام 1989.
- هل تسمعين صهيل أحزاني عام 1991.
- هوامش على الهوامش عام 1991.
- أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء عام 1992.
- 50 عامًا في مديح النساء عام 1994.
- أبجدية الياسمين عام 1998.
في مجال النثر
- قصتي مع الشعر ، سيرة ذاتية.
- من أوراقي المجهولة، سيرة ذاتية.
- ما هو الشعر؟
- الكلمات تعرف الغضب.
- عن الشعر والجنس والثورة.
- الشعر قنديل أخضر.
- العصافير لا تطلب تأشيرة دخول.
- لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي.
- المرأة في شعري وفي حياتي.
- بيروت حرية لا تشيخ.
- الكتابة عمل انقلابي.
- شيء من النثر.
في مجال المسرح
- مسرحية جمهورية جنونستان عام 1977.
نماذج من شعره
- من قصيدة (إلى تلميذة)
ما زلت في فن المحبة طفلة بيني وبينك أبحر وجبال
لم تستطيعي بعد أن تتفهمي أن الرجال جميعهم أطفال
إني لأرفض أن أكون مهرجًا قزمًا على كلماته يحتال
فإذا وقفت أمام حسنك صامتًا فالصمت في حرم الجمال جمال
كلماتنا في الحب تقتل حبنا إن الحروف تموت حين تقال
- من قصيدة (أنا يا صديقة متعب بعروبتي)
يا تونس الخضراء جئتك عاشقًا وعلى جبيني وردة وكتاب
إني الدمشقي الذي احترف الهوى فاخضوضرت بغنائه الأعشاب
أحرقت من خلفي جميع مراكبي إن الهوى أن لا يكون إياب
أنا فوق أجفان النساء مكسر قطعًا، فعمري الموج والأخشاب
لم أنس أسماء النساء، وإنما للحسن أسباب ولي أسباب
يا ساكنات البحر في قرطاجة جف الشذا، وتفرق الأصحاب
أين اللواتي حبهن عبادة و غيابهن وقربهن عذاب
اللابسات قصائدي ومدامعي عاتبتهن فما أفاد عتاب
- من قصيدة (صباحك سكر)
إذا مر يوم ولم أتذكر
به أن أقول صباحك سكر
ورحت أخط كطفل صغير
كلامًا غريبًا على وجه دفتر
فلا تضجري من ذهولي وصمتي
ولا تحسبي أن شيئًا تغير
فحين أنا لا أقول أحب
فمعناه أني أحبك أكثر
إذا جئتني ذات يوم بثوب
كعشب البحيرات أخضر أخضر
وشعرك ملقى على كتفيك
كبحر... كأبعاد ليل مبعثر
ونهدك... تحت ارتفاف القميص
شهي... شهي كطعنة خنجر
ورحت أعب دخاني بعمق
وأرشف حبر دواتي وأسكر
فلا تنعتيني بموت الشعور
ولا تحسبي أن قلبي تحجر
فبالوهم أخلق منك إلهًا
وأجعل نهدك قطعة جوهر
و بالوهم أزرع شعرك دفلى
وقمحًا ولوزًا وغابات زعتر
- من قصيدة (متى يعلنون وفاة العرب)
أحاول منذ الطفولة رسم بلاد
تسمى مجازًا بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر
وتشكرني إن كتبت قصيدة حب
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر
أحاول رسم بلاد
تعلمني أن أكون على مستوى العشق دومًا
فأفرش تحتك صيفا عباءة حبي
وأعصر ثوبك عند هطول المطر
أحاول رسم بلاد
لها برلمان من الياسمين
وشعب رقيق من الياسمين
تنام حمائمها فوق رأسي
وتبكي مآذنها في عيوني
أحاول رسم بلاد تكون صديقة شعري
ولا تتدخل بيني وبين ظنوني
ولا يتجول فيها العساكر فوق جبيني
أحاول رسم بلاد
تكافئني إن كتبت قصيدة شعر
وتصفح عني إذا فاض نهر جنوني
وفاة نزار قباني
كانت أصعب مرحلة في حياة نزار قباني هي تلك التي بعد مقتل زوجه بلقيس، فقد غادر لبنان، وأخذ يتنقل بين عدد من المدن الأوروبية مثل باريس وجنيف ليستقر في النهاية في مدينة لندن، ويعيش بها السنوات الـ 15 الأخيرة من عمره، ولم يتوقف نزار قباني عن الكتابة وإصدار أعماله المثيرة للجدل حتى عام 1997 عندما بدأت تسوء حالته الصحية حتى توفي في 30 إبريل عام 1998 عن عمر ناهز 75 عامًا بعد أن أصيب بأزمة قلبية في العاصمة الإنجليزية لندن.
وكان نزار قباني أيام وجوده في المستشفى في أيامه الأخيرة قد كتب وصيته بأن يدفن في مسقط رأسه بدمشق، وقال عنها في وصيته: «الرحم الذي علمني الشعر الذي علمني الإبداع والذي علمني أبجدية الياسمين».
دفن نزار قباني بعد أربعة أيام من موته في مقبرة (باب الصغير) بعد أن شيعته جنازة كبيرة شارك فيها عدد من المثقفين والكتاب والفنانين السوريين والعرب، وكان الناس في دمشق قد حملوا جثمان نزار قباني على الأكتاف في موكب شعبي كبير بعد حضوره على متن طائرة خاصة من لندن إلى الجامع الأموي لإقامة الصلاة.
في الختام، لم يكن نزار قباني شاعرًا عاديًا؛ بل كان ظاهرة ثقافية غيرت ملامح الشعر العربي إلى الأبد، بتجاربه الشخصية وترجمته لقضايا الحب والحرية والنقد السياسي استطاع أن يترك إرثًا أدبيًا خالدًا يجمع بين الجرأة والرومانسية. إذا كنت تبحث عن رحلة فكرية وأدبية تثري روحك وتفتح لك آفاقاً جديدة، فإن قراءة أعمال قباني تمنحك نظرة متعمقة على تعقيدات الحب والمجتمع. استمر في متابعة إبداعه لتكتشف كل معاني الصراحة والاحتجاج والجمال في آن واحد.
وفي نهاية هذا المقال الذي تضمن جولة سريعة في حياة الشاعر السوري الكبير نزار قباني نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات ومشاركة المقال عبر مواقع التواصل لتعم الفائدة الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.