في منتصف طريقنا إلى النهاية نتوقف، ننظر حولنا، نلاحظ التجاعيد، الآلام الغامضة، صمتنا الطويل، وموجات الحنين، نومنا الكثير، هروبنا من السعادة، تعلقنا بالصغار، وغضبنا المستمر..
نُحبُّ أحاديث الماضي، فنحن سنكون منه في القريب، الأصدقاء القدامى، وعشقنا القديم، فتاة أحلام رفضتها الظروف، وحب عابر اختارنا في الطريق، وقلبنا معلق بين هاتين، حتى نشيخ، يختفي الحب بالتدريج، عندما نشيخ، نبحث عن الفراش الدافئ، والطعام الخفيف، نتناوله وننظر في وجوه الجميع، ونتذكر عندما كنا يافعين، ابتسامات أهالينا، وقبلات جيراننا، وهدايا العيدين، أعياد ميلاد بسيطة، وجلسات سمر تحت ظل أشجار النيم، والقمر يلاحقنا بينما نركض منه فارين..
أتذكرُ عندما تقدمت بنا السنين، تحيات باحترام، وأدب مع الحاضرين، كلمة مسموعة عند الصغير، ونظرة فخر يشويها خوف من العين، كل ذلك عندما نكون بين الآخرين، لكن عندما نكون وحدنا كنا نبدو بين بين، مختلفين نتحدث بالحماقات، نركض خلف بعضنا كالمجانين، يجذبنا ما هو جديد..
كانت لنا ألقاب تخبرنا بما كنا نريد، بما نشعر تجاهه بالنقص وما نرغب فيه لنصبح كاملين، كل ذلك لن نصبح كذلك، هذا ما أدركناه بعد حين، لقد كنت روميو وكنت وقتها من واقعين، بين ذراعي الحب الأنيق، حبيبتي لا تعلم عني الكثير، وبما أننا لسنا في رواية شيكسبير، تزوجها أحدهم في غفلة من قلبي اللعين.
ثم سرقت الحياة من عمرنا سنوات ليست بالقليل، فجأة أصبحنا في منتصف العشرين، أعيننا محمرة من السهر، جسدنا متعب من العمل، من دون أن ندرك وجدنا أن الحياة لم تعُد وردية اللون، أفكار طفولية تبخرت.
نقاشات؟
أنت تمزح لم نعُد حتى نطيق الحديث، يفترض الجميع بأننا في عمر الزهور والياسمين، لكننا نسبح في بحر من حمم الجحيم، تفكر في الحب والأصدقاء لدقائق قبل أن يسرقنا النوم، نستيقظ لنجد أننا في آخر الثلاثين، متزوج وأب لطفلين، الأول بنت والآخر من البنين، يتساءل روميو في داخلي متى خنت عهدنا القديم، أسأله من أنت يا عزيزي وهو من ردي بفقد صبره بالبكاء يصيح، يختفي بعدها ويتركني وحيد، أشعر بأني مرهق وبملابس العمل إلى النوم أطير.
أستيقظُ وأنا أتخطى السبعين، بثلاث أقدام أسير، لحية حليقة وشارب خفيف، يدان ترتعشان وظهر يؤلم كلما حاولت أن أنهض وأقوم..
أطفال صغار من جديد، يسمونهم أحفادي وبالجد ينادون، امرأة عجوز بالكاد تراني من بعيد، لا أعرفها ولا أذكر اسمها ماذا يكون، شابة طويلة تحمل ملامح حسناء تقبلني وتغادر كل يوم..
يأتي طفلها فيسألني إن كنت هكذا قبل سنين، يضحك الجميع بينما من عيني دمعة تفيض، أضع رأسي في الوسادة مرة أخرى وقبل النوم أراهم يمرون، براقة جميلة كزهر الفل في المرج الكبير، أناديها فلا تجيب، لقد كانت في طفولتي زهرة تنمو كل عقد من السنين، تغرب الشمس عليها ويطلع قمر لطيف، بلونه الفضي يرويها حتى تنير..
ومن الغرب تأتي غيوم، فتحجب القمر ويغيب، فيقطفها في الظلام صياد بغيض، فطلعت الشمس على عود يحاول أن يصنع زهرة من جديد، فتنمو وتنمو ولا يخرج منها إلا ورق أخضر صغير، فلا يعود القمر إليه، ولا يطل فوقها الندى الجميل، لتنتهي وهي تحاول في فم ماعز بري طليق، فأضحك وإلى النهاية أتابع الطريق، الضوء الخافت، والصمت الموحش، البرد القارض، والليل الطويل.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.