«نبض بين موجتين».. قصة قصيرة

كانت الشمس تنسحب ببطء من الأفق، تُلقي آخر خيوطها الذهبية على سطح البحر الذي بدا هادئًا كعاشقٍ كتم شوقه طويلًا.

على شاطئ «رأس الناقورة»، حيث تلتقي الصخور بعذوبة البحر، كانت «سلمى» تقف وحدها، تغازل النسيم بخصلات شعرها وتغمس قدميها في الموج، تبحث عن شيء لا تعرف اسمه.

كانت سلمى تهوى البحر منذ طفولتها، ترى فيه مرآتها التي لا تكذب، ودفتر أسرارها الأزرق. في ذلك المساء، شعرت أن شيئًا في قلبها يدعوها للمضي أعمق، كأن البحر يناديها باسمها.

خلعت حذاءها، وركضت ضاحكة نحو الماء، شيئًا فشيئًا، حتى صار جسدها في حضن الموج، تغوص وتطفو، تضحك وتهمس، إلى أن خانها التيار فجأة، وسحبها دون رحمة.

صرخت، ثم اختنق صوتها في ملوحة الماء، ومدت يدها إلى السماء، لكن لا أحد رآها… سوى «سامر».

كان سامر قد اعتاد الجلوس في ذلك الوقت على صخرة عالية تطل على البحر، يُلقي ببصره إلى البعيد، يحمل في عينيه همًّا قديمًا لا يفصح عنه.

كان سامر قد اعتاد الجلوس في ذلك الوقت على صخرة عالية تطل على البحر، يُلقي ببصره إلى البعيد

لكن في تلك اللحظة، لمح ذراعًا تلوِّح بين الأمواج، وصوتًا متقطعًا يطلب النجدة.

لم يفكر، خلع قميصه، وقفز من الصخرة كمن يعرف أن روحه في خطر، لا أحد يعلم من أين جاء بكل تلك السرعة، وكأن القلب هو من قاد الجسد، لا العكس.

اقترب منها، وقد تلاشت قواها تمامًا. كانت عيناها نصف مغلقتين، وشعرها يلتف كخيوط الطحالب، وجهها شاحب كأن الموت قد قبَّل جبهتها بالفعل.

ضمها بذراعيه، وسبح بها عكس التيار، بينما الموج يصفعه مرة، ويربت عليه مرة، لكنه لم يتوقف حتى وضعها على الرمل، وأدارها برفق، كمن يحمل قلبه لا جسدًا.

ضغط على صدرها، وبدأت تسعل، وتخرج الماء من فمها، وعيناه لا تبارح وجهها، كأن الزمن كله عالق بين رمشين.

فتحت عينيها ببطء، فرأته أول ما رأت. لم تسأله من أنت، لم يقل لها أنا سامر، لم ينطق أحدهما، كان الصمت بينهما أبلغ من أي سؤال.

بعد تلك الحادثة، أصبحت سلمى تزور البحر كل غروب، وسامر لا يفوِّت لقاء. لم يتحدثا كثيرًا، لكنه كان يراها من بعيد، يلوِّح لها، تبتسم له، ثم يلتقيان عند الصخرة ذاتها.

في أحد الأيام، قالت له:

«أشعر أنني متُّ يومها، ثم وُلدت من جديد… في عينيك».

فقال لها:

«وأنا كنت غارقًا في الوحدة… حتى أنقذتني أنتِ، وأنا أُنقذك».

ضحكت وقالت:

«إذًا نحن متعادلان».

فقال وقد اقترب منها أكثر:

«لكن قلبي لم يعد كذلك».

مرَّت الشهور، وكل يوم يمر، كانت سلمى تغرق فيه أكثر، لا في بحر الماء، بل في بحر سامر، وكانت تشعر أن إنقاذه لها لم يكن صدفة، بل وعد قديم في قلوب العاشقين، لا يراه إلا من نجا من الموت مرتين… مرة في الماء، ومرة في الحُب.

وفي يومٍ ماطر، اعترف لها أخيرًا:

«أنا لم أكن على الصخرة صدفة… كنت أراقبك منذ أيام، لكني خفت أن أكلمك. حين رأيتك تغرقين، شعرت أني سأخسرك قبل أن أقول لك... أحبك».

ابتسمت سلمى ووضعت يدها على صدره وقالت:

«وهذا القلب، منذ تلك اللحظة، لم يعد لي وحدي».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.