في زقاق ضيق من أزقة عمان القديمة، حيث تعانق الجدران الحجرية عبق التاريخ وتتناثر نسمات القهوة العربية من المقاهي القديمة، جلست فاطمة خلف طاولة خشبية صغيرة تعرض عليها بضاعتها المتلألئة من الحلي الفضية.
كانت يداها تبرعان في تشكيل الفضة كما لو كانت تعجن الضوء.. أقراط ناعمة، أساور منقوشة، عقود تُروى بها حكايات النساء البدويات، كلها مصنوعة بأنامل فاطمة التي ورثت الصنعة عن جدها، أحد أشهر الحرفيين في مادبا.
لم تكن فاطمة مجرد بائعة، بل كانت فنانة تحترف الصمت وتُحاكي الفضة كما تُحاكي الأم طفلها.. صبورة، لا تتحدث كثيرًا، لكن عينيها تفضحان قصة عمرها الطويل مع الأحلام المؤجلة والحنين المخبّأ في قلبها.. في الثلاثين من عمرها، لا تزال عازبة على الرغم من محاولات الجارات والخالات تزويجها، وكانت تقول دائمًا: «قلبي مع الفضة، لا يُساوم على نبضه أحد».
وفي ذات مساءٍ ربيعي، حين كانت الشمس تودّع المدينة بخجل، مرّ محمود من الزقاق.. كان غريبًا عن الحي، يرتدي جاكيتًا جلدية وساعة قديمة ورثها عن والده، وكان في يده دفتر صغير يدون فيه مشاهداته بصفته هاويًا للتاريخ الشعبي والحرف اليدوية، وما إن وقعت عيناه على الحلي المعروضة، حتى شعر بشيء غريب يشده، لا إلى الفضة فقط، بل إلى صاحبتها أيضًا.
اقترب محمود وقال بخجل: «السلام عليكم... الحلي رائعة، تبدو وكأنها تنبض بالحياة».
رفعت فاطمة عينيها نحوه وردّت بهدوء: «وعليكم السلام.. الفضة تتنفس إن أحببتها».
ابتسم محمود وجلَس على أحد الكراسي الخشبية القديمة بجانب الطاولة، وبدأ يسألها عن التصاميم، عن أصل النقوش، عن معنى الهلال والنجمة في بعض الأساور.. تحدثا كثيرًا، أكثر مما اعتادت فاطمة، وأكثر مما ظن محمود أنه سيحدث في يوم عابر كهذا.. أخبرها أنه جاء من إربد لكتابة تحقيق صحفي عن الحرف التقليدية، وأسرّ لها بأن الفضة تشدّه بطريقة لم يفهمها يومًا.
قال لها مبتسمًا: «أشعر أن للفضة سحرًا يشبه العيون التي تعرف كيف تخفي الألم خلف بريقها».
نظرت إليه فاطمة بدهشة.. لم تسمع مثل هذا الكلام من قبل، ولا اعتادت أن يتغلغل أحد إلى هذه الدرجة من أعماقها، ولسبب ما، شعرت بشيء يتحرك في صدرها... كأن الفضة داخلها بدأت تذوب.
تكررت زيارات محمود للزقاق، كان يأتي في الموعد نفسه تقريبًا، يحمل دفتره وكوبًا من القهوة، ويجلس بجانبها يحدثها عن عمان، عن جدته التي كانت تلبس خلاخل فضية وترقص في الأعراس، عن كتبه، عن أحلامه بأن ينشئ متحفًا صغيرًا للحرف الشعبية.
وذات مرة، بينما كانت تغلف له قلادة اشتراها، قال بهدوء: «أتعلمين يا فاطمة... أظنني أحب الفضة لأنك فيها».
تجمدت يدها للحظة، لكنها أكملت تغليف القلادة دون أن ترفع عينيها.. لم ترد، ولم تعترض، لكنها تلك الليلة لم تنم.
مرت الأسابيع، وتحوّل الزقاق إلى مسرح لحكاية غير معلنة.. أهل الحي بدؤوا يهمسون عن «الصحفي الذي وقع في حب الفضة»، في حين كانت فاطمة، بين كل نقشة وأخرى، تشعر بأن محمود ترك أثرًا في معدن قلبها.
وفي إحدى الأمسيات، بعد أن أقفلت دكانها الصغير، وجدت على الطاولة صندوقًا صغيرًا مغلفًا بعناية.. فتحته ببطء، فوجدت بداخله خاتمًا فضيًّا بسيطًا، محفورًا عليه من الداخل كلمة: «النبض».
معه ورقة صغيرة كتب فيها محمود: «لم أعد أميز بينك وبين الفضة.. أنتِ الأصل، والبريق، والنبض.. أتسمحين لي أن أكون ظلّك في هذا الزقاق؟».
دمعت عينا فاطمة.. أول مرة منذ سنوات، شعرت بأن الحياة تمنحها فرصة لتكون أكثر من بائعة فضة.. في اليوم التالي، جلس محمود بجانبها كعادته، لكن هذه المرة، كانت فاطمة ترتدي الخاتم.
نظر إليها، فابتسمت، وقالت: «الفضة لا تتنفس إن لم تجد من يسمع نبضها».
ومنذ ذلك الحين، لم يعد الزقاق مجرد ممر ضيق في عمان القديمة، بل صار شاهدًا على قصة عشقٍ نادرة، حكاية بائعة فضة ورجلٍ أحبها حتى صارت جزءًا من قلبه، ومن وطنه.
حكاية رائعة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.