تحركت بفزع في اتجاه الصوت الصادر من غرفة زوجها الذي ينم عن رعب يحدث له في الداخل لتقول صارخة وهي تضرب على الباب بقوتها الواهنة:
- أرجوك "أنور" افتح لي الباب، اتركني أساعدك، افتح هذا الباب اللعين الآن.
تعالت صرخات زوجها فاندفعت مسرعة لتأتي بسكين من المطبخ بأقصى سرعتها؛ لتحاول كسر قفل الباب، نجحت في فتحه بعد مدة طويلة بعض الشيء من صراخ منه في الداخل، ومقابل له منها في الخارج، لتصعق برؤيته أمامها كالممسوس يتلوى من الألم والتشنجات...
استفاقت من شرودها في ذكرياتها على صوت الطبيب النفسي الذي هتف باسمها العديد من المرات:
- سيدة "اسينات" هل حضرتكِ معنا أناديكِ منذ بعض اللحظات ولا أجد منكِ أية استجابة، هل أنتِ بخير؟
التقطت أنفاسها ببطء وهي مغمضة العينين لتملأ رئتيها ببعض الهواء البارد قبل أن تجيبه بهدوء حزين:
- أنا بخير شكرًا لك.. أعتذر لقد شردت لبرهة من الوقت لكنني معكم الآن.
هز الطبيب رأسه بتفهم ثم أردف قائلًا برسمية:
- حان الآن دورك لكي تقصي على الحضور ما يؤلمك علك تستفيدين بمشاركة تجربتك مع الجميع، وتزيحين ما يثقل صدرك في تلك الجلسة العلاجية النفسية.
ابتلعت غصتها وهي تجيب بأسى:
- حسنًا أتفهم ذلك لكن لا أعلم من أين أبدأ!
= من حيث تحبين أن تبدئي ما يهمني أن تكوني مرتاحة.
- أشكرك، سأحكي لكم من بداية الأمر كله...
صمتت لتحبس عبراتها الملتهبة التي تود الهبوط، لكنها ترفض أن تظهر ضعفًا كتمته كثيرًا، ثم أكملت قائلة بحسرة:
- كنت كأي فتاة تود الزواج، وارتداء الفستان الأبيض، وأن يأخذها فارسها على حصانه، ولأن زواجي قد تأخر ولست كفتيات جيلي اضطررت للموافقة على أول من تقدم لي وكان زوجي "أنور" الذي تزوج مسبقًا، وما علمته بعد ذلك أن زوجته السابقة طلبت الطلاق لقلة تحمله للمسؤولية، واستهتاره وإهماله الواضح لها، ولشؤون المنزل، بمعنى أن عيوبه كانت كثيرة، ولكن برغم كل ذلك أحببته من صميم قلبي، فلم أعد أرى أمام عيني سواه، لذلك كنت أبتلع نيران الغيرة والإهمال، وأشرب وراءها ألواح ثلج من التجاهل لكل عيوبه، كان كثير السفر، وصرف المال ببذخ على رحلاته التي لم تشملني أبدًا ولو لمرة واحدة...
خانتها دمعة لتفر هاربة على وجنتها فمسحتها بسرعة وهي تغمغم بانكسار:
- أعلم أن منكم من سيقول إنه ضعفي وتخاذلي معه من جعله يفعل بي كل هذا، لكن ما لا تعرفونه أن تلك الأشياء بسيطة جدًا على ما فعله بي مؤخرًا، المهم.. ذات يوم دخل إلى المنزل على عجلة من أمره وشرع في ملء حقيبة سفره، ويبدو أنها رحلة مفاجئة في طريقها إليه فاقتربت منه قليلًا، وقلت له متسائلة بصوت هادئ:
- ماذا تفعل يا أنور أمسافر أنت؟
أجابني بعدم اكتراث وهو يكمل في توضيب أغراضه:
- ما شأنك أسينات؟ افسحي لي المجال، فإنني مستعجل كثيرًا، سوف أتأخر على رفاقي، إنهم ينتظرونني بالأسفل بسيارة الأجرة، سوف نتأخر على موعد الطائرة.
= طائرة؟ هل ستخرج من البلاد؟ تلك رحلة بعيدة هذه المرة أليس كذلك؟
رد على تساؤلي بكلمات بسيطة، وهو يغلق الحقيبة:
- نعم أصبتِ، لن أوصيكِ على نفسك، هيا لنلتقي مجددًا، سأحاول ألا أتأخر، سلام يا حبيبتي.
ولم أعلم إلى أين سيذهب، ولا أخفي عليكم إنني مللت كثيرًا منه، ومن تصرفاته، لكن في كل مرة حبي له يمنعني من فراقه، أو حتى الوقوف بوجهه، كنت أكتفي حقًا بكلمة "حبيبتي" تلك التي يرفقها بآخر بعض الجمل لكي يضمن رضاي الوهمي.
مر شهر كامل ولم يصلني منه أي اتصال أو حتى رسالة صغيرة ليطمئن قلبي على حاله، أو حتى ليطمئن هو على حالي بدونه، كنت أنام كل ليلة ودموعي رفيقة وسادتي حتى عاد إلى المنزل ذات يوم، كان عاصفًا باردًا، أتذكر ذلك اليوم جيدًا؛ حيث وصل في منتصف الليل ولم يوقظني من نومي، ولا اهتم برؤيتي، جعله تعب السفر مضطرًا للنوم في الردهة، ولم يصعد إلى غرفة النوم لأفاجأ به نائمًا بالأسفل على الأريكة، فاقتربت منه بلطف وقلت له بصوت هامس:
- ما بالك يا أنور تنام على الأريكة، لم لم تصعد؟ ولم لم توقظني؟ ومتى وصلت من الأساس؟
أجاب على أسئلتي بصوت غاضب ناعس:
- هل يوقظ أحدهم أحدًا نائمًا لينهال عليه بكل تلك الأسئلة أسينات؟ ألا تميزين الصحيح من الخطأ؟ سئمت منكِ يا امرأة لا تنفعين بشيء حقًا.
ثم تركني وصعد إلى الأعلى، وهو يتثاءب ويتمايل من النعاس، حزنت من حديثه الجارح، ولكني ضمدت جروح قلبي بأنني حدثت نفسي بأنه محق، لم أرحب به كما يجب، وأطرقت رأسه بكثرة أسئلتي، لكم أخذ قلبي مسكنات تضر به على المدى البعيد بدلًا من استئصال سبب الألم الذي يستدعي لأخذ المسكنات قصيرة المدى.
تركته؛ لينام ويستريح، ثم انتظرته حتى استيقظ وذهب إلى المرحاض، وأخذت حقائبه وشرعت في إفراغها، وترتيب ما بها في الخزانة، حتى وصلت إلى حقيبة ظهره الصغيرة ليدلف إلى الغرفة، ويشاهدني ممسكة بالحقيبة، فصرخ بي بصوت أفزعني:
- أسينااااات! اتركِي ما بيدكِ ليس لكِ عمل بأشيائي الخاصة، اخرجي من هنا، واتركي الحقيبة، أنا سأقوم بترتيبها.
دق ناقوس الخطر برأسي، وشككت به، فصرخت به لأول مرة منذ زواجنا وأنا ما زلت ممسكة بالحقيبة بيدي:
- ماذا هناك؟ هل تلك المرة الأولى التي أرتب لك أشياءك يا أنور؟ ماذا بك؟ ما الذي جعلك تجن لتلك الدرجة؟ لن أصمت ككل مرة سوف أرى ما تحتويه تلك الحقيبة، هل يوجد بها أشياء تخص امرأة أخرى وتخشى أن اراها؟
اقترب مني مسرعًا ليخطف مني الحقيبة، ولكن كنت أسرع منه فعدت إلى الخلف بعض الخطوات، وأنا أقوم بفتحها فلم أجد بها سوى كتاب.. كتاب لعين لا داعي لأن أذكر لكم اسمه، لكنه كتاب خطير جدًا عن تحضير الجان، وطلاسم حقيقية خطيرة حقًا، إنه كارثة مدمرة لمن يحمله، وقد عرفته على الفور؛ لأنني شغوفة بقراءة الكتب والمقالات، فصرخت برعب قائلة:
- ما هذا يا أنور أجننت؟ ما الذي أحضرته معك إلى بيتنا؟ هل تريد أن تحضر الشياطين والمردة إلينا وتملأ بهم المنزل؟ هل ستجعل حياتنا تتحول إلى جحيم؟
تأفف بملل قبل أن يتمتم بلامبالاة:
- مملة أنتِ كعادتكِ.. دائمًا ما تضخمين المواضيع والأشياء، أي جحيم هذا؟ إنكِ لا تعلمين شيئًا على الإطلاق، ذلك الكتاب سيكون باب سعادتي وثرائي، اصمتي أنتِ ولا تتدخلي بي، أفضل لك.
مضيت إلى الغرفة التي جعلتها مكانًا لصلاتي وتعبدي، وشرعت أبكي بحزن شديد، وأتضرع إلى الله تعالى ليحميه من شر هذا الكتاب، وشر نفسه المتسلطة عليه
مرت ثلاث ليالِ، ونحن متخاصمان ومتباعدان كل منا في غرفة لوحده، بأمر منه؛ لأنه ما زال غير راضِ عن طريقة حديثي معه على حد قوله؛ لأنني لم أتكلم معه بتلك الطريقة من قبل، لكنه كان طبيعيًا تمامًا يتحرك بمرح كعادته، يدخل ويخرج من المنزل بشكل عادي، يأكل ويتحدث لم يتغير به أي شيء، فظننت أنه قد صرف النظر عن أمر ذاك الكتاب، فحمدت الله كثيرًا ونسيت أمره أنا الأخرى..
في اليوم الرابع بدأت ألاحظ أنه يستيقظ سعيدًا بشدة، لكنه منهك القوى، وكلما سألته عن شيء لا يجيب ولا يأكل معي، ولم يصلي أي فرض من فروض اليوم بأكمله، ويظل حبيس غرفته لوقت كبير جدًا، حتى أصدقاؤه لم يعد يراهم كسابق عهده، استمر وضعه هذا لأسبوع كامل، طفح بي الكيل فكلما مررت بجانب غرفته وجدته يتحدث مع شخص ولا أسمع أي صوت لطرف آخر، فظننت أنه يتحدث على الهاتف، لا أخفيكم سرًا تسربت الشكوك مرة أخرى إلى قلبي، فظننت أنه على علاقة بأخرى، ولهذا قد تحجج بأي شيء ليبتعد عني، لم يأت في خاطري أبدًا ما اكتشفته بعد ذلك.
اقتحمت غرفته وهو بالمرحاض لأفتش عن أي شيء قد يؤكد شكوكي اتجاهه، فصعقت عندما وجدت طعامًا كثيرًا على الطاولة أمام سريره، سرت قشعريرة مرعبة بصدري لم أدرِ سببها، ما كنت أشعر إلا بخوف بالغ، وشيء غامض يحثني على مغادرة الغرفة بأقصى سرعة لدي، لكن قبل أن أخرج لمحت بطرف عيني ذاك الكتاب اللعين الذي حدثتكم عنه من قبل، شعرت أن الأرض تدور بي بما رحبت، ولم تعد قدماي تحملانني، تلك إذن القصة، لقد استخدم زوجي الكتاب، لقد أودى بحياته وحياتي إلى نار الجحيم، آآآه يا أنور لقد تورطت بشيء لو تعلم إنه لعظيم.
خرجت بسرعة من الغرفة، ولأن إيماني بالله قوي جدًا أول ما جاء بقلبي هو ذكر الله بسرعة، ذهبت لأتوضأ وأصلي ركعتين اسميتهم ركعتي رفع شكوى لقاضي السماوات والأرض؛ ليحمي زوجي وينقذه، أنهيت وذهبت مرة أخرى إلى غرفة "أنور" وهممت بفتح الباب لكنه كان موصدًا من الداخل، وتسرب إلى مسامعي صوت ضحكاته وهمهماته، وكأن بصحبته امرأة في الداخل، غلت الدماء في عروقي فطرقت الباب بعنف شديد حتى زمجر بغضب وتوعد لي بصوت صارخ، صممت على موقفي واستمررت بطرق الباب وأنا أقول بتصميم
- لن أبرح مكاني حتى تفتح لي الباب ونتحدث، أنور أتفهم ما أقوله؟ لن أتحرك افتح الباب هيا...
فتح على مضض ووجهه كأن على رؤوسه الشياطين بشع للغاية، فزعت من هيئته، وتراجعت للخلف بخطوات بطيئة، لكن تداركت نفسي لكيلا أظهر بأني خائفة أمامه، هتفت بثقة دعوت الله كثيرًا بداخلي أن تظهر علي وتصل إليه:
- ماذا تفعل يا زوجي؟ قل لي.. ما الذي حل على حياتك؟ ما تلك الورطة المريعة التي أقحمتها لدنياك ودينك؟ بربك يا أنور هل أنت سعيد الآن؟ هل استخدمت ذاك الكتاب اللعين برغم كل تحذيراتي لك بألا تقربه؟ أي عِند هذا الذي يعتمر برأسك يا هذا أخبرني...
ضيق ما بين حاجبيه بعصبية قبل أن يردد بغضب بجم:
- اذهبِي من هنا لا أريد رؤية وجهك البشع هذا، أنا الآن بصحبتي من هي أجمل وأرق وأعذب صوت منكِ، لا تقارنين معها مطلقًا، لم أعد أريدكِ بحياتي، ولا حتى بأحلامي، لو تمتلكين بضع قطرات مما تسمى الكرامة ارحلِي من هذا البيت بلا عودة، ولا تريني وجهكِ هذا مرة أخرى...
امسكته من كتفيه وهززته وأنا أصرخ به بصوت مرتفع:
- استفق يا أنور، أي امرأة التي تصحبها تلك شيطانة أنا أعلم جيدًا ما تفعله مثل تلك الكتب، هل أحضرت شيطانة إلى المنزل؟ هل ستدعها تعبث بحياتنا؟ استيقظ من هذا الشر المطبق أرجوك.
ما كدت أنتهي من جملتي حتى سمعت صوت امرأة عاليًا جدًا يكاد يصم الآذان، وهي تضحك وتضحك حتى شعرت أن رأسي تأكله النيران، وأذني ستنقطع من شدة ارتفاع الصوت.
خطر بذهني سريعًا آية الكرسي ظللت أرددها بلسان ثقيل حتى استطعت أن أرفع صوتي وأنا أقولها وأنا مغمضة العينين متمسكة بكتفه، شعرت بأنه يقذفني بعيدًا عنه بقوة حتى سقطت على الأرض، وآلمني ظهري كثيرًا، فتحت عيناي لأرى الباب موصدًا مرة أخرى، تحاملت على نفسي ووقفت بسرعة وشرعت بالأذان بأعلى صوت أملكه، وكلما أنهيت أكرره حتى خارت قواي لكني لم أتوقف إلا عندما سمعته يصرخ برعب، فتحركت بفزع باتجاه صوته الذي ينم عن رعب يحدث له في الداخل، صرخت وأنا أضرب على الباب بقوة واهنة:
- أرجوك "أنور" افتح لي الباب، اتركني أساعدك، افتح هذا الباب اللعين الآن.
تعالت صرخاته فاندفعت مسرعة لأحضر سكينًا من المطبخ بأقصى سرعة لأحاول كسر قفل الباب، نجحت في فتحه بعد مدة طويلة بعض الشيء من صراخ منه في الداخل ومقابل له مني في الخارج، صعقت برؤيته أمامي على الأرض كالممسوس يتلوى من الألم والتشنجات... ركضت إليه لآخذه بين أحضاني واهدئ من روعه، بمجرد أن لمست يده صرخ بذعر مرددًا ومكررًا:
- اتركوني لا تضربونني، ليس لي أي شأن، لم أفعل شيئًا، هي من فعلت، وليس أنا لا تلمسوني اتركوني.
هلع قلبي من صوته، وهيئته، ومما يقول لكن حضور الله في قلبي وجنبات روحي بث في صدري الطمأنينة، اقتربت من أذنه وبثبات وهبني إياه الله تعالى ظللت أردد ما تيسر لي من القرآن الكريم حينها حتى سكن بين يديّ.
لم أتركه منذ ذلك اليوم ينام بالغرفة وحده، كنت أبيت معه رغمًا عنه، كانت ترافقه تلك الشيطانة في أحلامه وتضربه بلا رحمة بمساعدة بعض خدامها من الشياطين والمردة.
كنت أستيقظ من نومي على إثر ضربة قوية منه تهوي على وجهي أو رأسي صارخًا بي أن أترك الغرفة وإلا سيقتلني، كان يريدني أن أغادر كي يختلي بشيطانته كي يطلب منها مسامحته، ويطلب ودها من جديد، كي تكف عن ضربه والانتقام منه؛ لأنه لا يريدها أن ترحل بل كانت أنا من تريد.
لم أيأس كنت أتحمل وأُصر كثيرًا على البقاء، وكنت أدعو الله في سريرتي أن يقف بجانبي، ويحميني منه، ومن الشياطين المحيطة به، كنت أصلي في الغرفة وأقرأ القرآن الكريم، وأقوم بتهويتها، وأشعل بها بعض البخور لأجعل رائحتها طيبة، وطاقتها الإيمانية عالية ليخرج منها كل من هو نجس كافر، بالطبع كان ذلك ضد إرادة "أنور" ومن معه، لكني لم أكترث وكأنه كان حولي درع واقِ بفضل الله لم يستطيعوا مسي بسوء عدا عن بعض الضربات التي كنت أتلقاها من زوجي من الحين إلى الآخر، كنت أتحمل وأقرأ بوجهه آيات كثيرة حارقة لأي شر.
كان يتلوى بأشد أنواع العذاب وخارت قواه للغاية، لم يعد يقوى على تحمل الضرب والأذى منهم، وكان في تلك الآونة لا يريد أي شيء سوى أن يتخلص منها ومن خدامها، بدأ جسده في الهزلان الشديد وبدت آثار الضرب المبرح على مفترق أجزائه، ومؤخرًا بدأت الوشوم الغريبة على هيئة طلاسم وكلمات مخيفة تظهر على سائر جسده، كان الأمر يتفاقم وأصبح أكبر من قدرتي وحدي عليه، كان يموت زوجي بالبطيء، حالته كانت مزرية بشكل بالغ الأثر، فاستعنت ببعض شيوخ الدين لكن قبل ذلك كان لا بد أن أفهم تفاصيل وملابسات الموضوع برمته من البداية، ماذا فعل كي يحدث معه كل ذلك.
حدثني "أنور" عنها قائلًا بندم مصحوب بفزع:
- نارية، اسمها نارية.. بدأ الأمر عندما كنت مسافرًا إلى بلد عربي برفقة أصدقائي كالمعتاد، كنا نتنزه بإحدى الأماكن الأثرية، ودخلنا مكتبة قديمة جدًا كان يشرف على زوارها رجل عجوز لا أدري لماذا بمجرد أن رآني ظل ينظر لي نظرات ثاقبة، لم أفهم مغزاها، ثم قال لي بصوت رخيم كان أشبه بالفحيح:
- لك عندي هدية عظيمة ستغير كل حياتك، وسيضحك لك الحظ؛ لأنك ستصبح ثريًا وسعيدًا أيضًا، لكن كل شيء بمقابل، لا تعطي الدنيا شيئا بلا مقابل.
صمت لبرهة ثم أعطاني ظهره، وبحث عن شيء على الرف المقابل لجلسته، ارتعشت يده وهو يشد ذاك الكتاب الملعون (...)، شعرت بشيء غريب يسري بجسدي، وأنا التقطت الكتاب من يده، وكأنه مغناطيس يجذبني بقوة شديدة، لمعت عينا العجوز وأتذكر أنني سمعته يتنهد براحة أستطيع تفسيرها الآن علها لأنه تخلص من كتاب الشر ذاك بإعطائه لي، علمني كيف أقرأ ما به، وما أفعله لكي أستطيع تفعيل طلاسمه، لا أريد أن أتذكر ما فعلته، أسينات لقد فعلت أشياء عظيمة من الكبائر بل أصعب وأكبر، كنت مفتونًا بما يستطيع خدام هذا الكتاب فعله وجلبه لي، امرأة جميلة، ثروة لا تعد ولا تحصى، قوة وسلطة تلك الأمور التي كنت أحسب أنني سأحصل عليها، فهمت متأخرًا أن لا شيء سوى الشر والدمار، وكره الجن للإنس، وأشياء كثيرة تخلو من الخير ورضا الله.
على صوت نحيب " أنور" وانطلق في نوبة بكاء طويلة قبل أن يكمل مرة أخرى، ويقول بخوف بالغ وهو يتلفت حوله:
- بدأت تظهر لي في أحلامي امرأة أقسم أنني لم أرى في جمالها أحدًا، كم هي ناعمة رقيقة، لذة قربي منها لا تضاهيها لذة أخرى، أسبوع واحد فقط حتى بدأت تطلب مني أن أفعل أشياء لا يقال عنها إلا أنها أفعال لا تصدر إلا من الشياطين والكفرة، عقلي كان مسلوبًا مني لضعف إيماني، شرعت في تنفيذ كل ما تؤمرني به حتى لا تفارقني حتى أظل بقربها، يومًا بعد يوم أخسر ديني وأشعر بسخط الله على حياتي التي أصبحت نتنة، كانت ترفض الظهور في الضوء كي لا أرى حقيقتها، غضبها مدمر، لقد سئمت وتعبت لم أعد أقوى على ضربها هي وأعوانها لي كل ليلة، ستقتلني عما قريب يا أسينات هي وعدتني بذلك.
كنت أستمع إليه وأنا احتضن مصحفي الشريف، وكلما شعرت بالخوف مما يقول شددت قبضتي على كتاب الله، ساعدت " أنور" للقيام لكي يتوضأ لكنه ظل يصرخ بهيستريا حتى وقع مغشيًا عليه، أسرعت بالاتصال برجل الدين الذي اتفقت معه أن يأتي في اليوم القادم لرؤيته وطلبت منه أن يأتي حالًا فلبى مشكورًا ندائي له في وقت قياسي، عندما وجد زوجي هكذا ظل يقرأ عليه القرآن بصوت عال بإيمان شديد حتى استيقظ زوجي وببطء وإرهاق شديد فتح مقلتيه لكنها كانت بيضاء تمامًا، ارتعدت أوصالي لكن حثني الشيخ على الثبات والقوة فامتثلت لطلبه ووقفت أتابع "أنور" وهو يتشنج ويصدر أصواتًا غريبة، قائلًا بصوت متحشرج تفزع له القلوب:
- هو من أحضرني.. هو من يريدني لم آتِ إليه من تلقاء نفسي، هو من قدم إلي قرابين وتوسلات وطلاسم كثيرة حتى أقبل المجيء إليه، ابتعدوا عني وعنه وإلا ذبحته أمام ناظريكما، سأحرق المنزل بكما سأوذيكما قبل أن تؤذونني...
كان "أنور" يعود لصوته الطبيعي ويصرخ بقوة وألم شديد:
- أنقذوني إن جسدي يحترق بأكمله، أنقذوا روحي سأموت فلينقذني أحد ما...
لتعاود "نارية" التحدث على لسانه مجددًا قائلة بتهديد غاضب:
- إن لم تكف يا هذا عن قراءة ما تقرؤه سوف أقتله ولا أتحدث من الفراغ، سترى بأم عينك كيف ستكون السبب في قتله المحتم.
لم يعرها الشيخ اهتمامًا وأكمل من حيث بدأ بتصميم أكبر، تعالت صرخات "أنور" واحمر وجهه كثيرًا لكنه بعد بضع دقائق هدأ وسكن، طلب مني الشيخ أن أنقله إلى المشفى لكي يستعيد عافيته، ولكنه كان صريحًا معي حيث قال بأسف:
- لا تتأملي كثيرًا فتلك حالات ميؤوس منها؛ لأنه من سعى إلى جلبها لم تتعدى عليه أو حتى خرقت العهد المقام بين الإنس والجن من قديم الزمان، لا تكفي عن الدعاء له لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
كان لدي يقين داخلي أن ذهاب "أنور" إلى المشفى سيكون آخر محطة بيننا، لم أعلم ما هو مصدر ذلك الإحساس، لكني لم أتخل عنه أبدًا، ولم أتركه لحظة، لم أخبر أهلي عما أعانيه معه من قبل وجود "الجنية نارية" أو حتى في وقت تواجدها، كنت أؤمن كثيرًا بأن بيتي وأسراره لن يعرف عنهما شيء سوانا، أنا وهو والله فقط يرانا.
جلست برفقته في المشفى ما يقارب الأسبوع كانت صحته في هبوط مستمر، الوشوم على جسده تتزايد بشكل مريب ومرعب، تزداد أناته وصرخاته ليلًا، كنت بجانبه دائمًا أقرأ فوق رأسه القرآن الكريم والأذكار، حتى غفلت عنه من فرط تعبي ونمت كالمقتولة، لأفيق من نومتي مصروعة حينما سمعته يصرخ بلا هوادة ووجهه يسود بشدة وكأنما يخنقه أحد بلا شفقة، أسرعت بالخروج من الغرفة لنداء أحد الأطباء أو الممرضين ليقوم بمساعدته لكن حينما عدت إليه وجدته يلفظ أنفاسه الأخيرة.
توفي زوجي وتركني وحدي، مات شر ميتة، ما حدث هذا جعلني أدخل في نوبة اكتئاب شديدة استمرت معي لنصف العام، اختفى الكتاب بموت "أنور" ولم أجده حتى وقتي هذا، بالمناسبة أنا لم أترك شقتنا، لم أقبل أن أنتقل منها أبدًا، لا أستطيع أن أنساه برغم كل ما فعله بي، لكنه ما زال حاضرًا بقلبي، أشتاق إليه أحيانًا وأحيانًا أخرى أحزن على مصيره، وأصلي له وأدعو الله دائمًا أن يغفر له، ويعفو ويتجاوز عن أخطائه، وفعلته الأخيرة العظمى.
كانت الجلسة العلاجية تحتوي على ما يقارب من العشرين شخصًا، منهم من خاف كثيرًا ونهض مغادرًا، ومنهم من جلس يستمع إليها باهتمام شديد حتى أن أحدهم نهضت لتحتضن "أسينات" بعدما أنهت قصة وجعها الكبير، لكنها شعرت أنها أفضل عندما أخرجت الحزن الذي يسكن عقلها منذ مدة ليست بالقليلة، عادت إلى بيتها الذي كان يجمعها بأنور، أتتها الجرأة لتفتح الغرفة التي كان يقطن بها أنور وشهدت على أحداث كثيرة مهولة، برغم أن الشيخ قد طلب من أهلها إفراغ الغرفة وإحراق كل شيء بها إلا أنها تتذكر كل ركن بها وكأنه الأمس، تفحصتها بعناية وألم يحرق قلبها حتى وقعت عيناها على شيء يلمع بظل أسود في إحدى زوايا الغرفة، دق قلبها بعنف مميت حينما اقتربت لترى ما هذا الشيء لتجده كتاب الشر يناديها...
قال تعالى: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا".
قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ".
"تمت بحمد الله ".
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.