ما نعرفه عن نابليون بونابرت نحن العرب هو صورة القائد العسكري الدموي الذي رأيناه في حملته على مصر والشام في أواخر القرن الثامن عشر، وأكثر ما يعلق بأذهاننا هي تصرفاته الدموية وخاصة في مذبحة يافا حين أمر بقتل 4000 جندي بعد استسلامهم، ثم حصاره لمدينة عكا وفشله في فتحها وعودته إلى مصر وهروبه، وفشل حملته التي تركت كثيرًا من الذكريات السيئة عن ذلك القائد المجنون، لكن يوجد وجه آخر لنابليون بونابرت، وهو وجه الإمبراطور الذي استطاع أن يحقق انتصارات كبيرة في وقت قصير قبل أن تتوالى عليه الهزائم المدوية لتسقطه أرضًا ويموت هناك في المنفى.
وفي هذا المقال نصحبك في جولة نتعرف فيها على الوجه الإمبراطوري لنابليون بونابرت بجنونه وخساراته وانكساراته حتى إنجازاته الكبيرة.
اقرأ أيضًا تعرف إلى أحداث الحملة الفرنسية على مصر والشام
القائد العسكري نابليون بونابرت
يعد نابليون بونابرت المولود عام 1769 في جزيرة كورسيكا الإيطالية -التي تسلمتها فرنسا من إيطاليا- أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ، وأول إمبراطور لفرنسا بعد قيامها بثورتها التي أطاحت بالنظام الملكي عام 1789، وكان نابليون أحد النوابغ في عصره على مستوى الأداء العسكري الذي بدأ منذ الدراسة حين التحق بالأكاديمية العسكرية في مدينة برين، مع أن الأكاديمية كانت تستقبل فقط أبناء الطبقة الأرستقراطية، لكن نابليون وجد طريقه إليها بمساعدة حاكم جزيرة كورسيكا، وهي الفرصة التي لم يضيعها نابليون، واجتهد في الدراسة والمطالعة، وحقق نتائج رائعة جعلته أبرز المتخرجين من الأكاديمية.
واصل نابليون بونابرت طريقه في التعليم العسكري عن طريق المدرسة العسكرية في باريس، وهي المدرسة التي يحتاج فيها الطلاب إلى الدراسة مدة عامين، لكن الولد الاستثنائي استطاع إنهاء دراسته في عام واحد، ليتخرج برتبة ملازم في المدفعية، ولم يتوقف التفوق الواضح لنابليون على أدائه الدراسي، وإنما ظهر ذلك في المعارك التي خاضها مع الجيش الفرنسي في قاعدة طولون البحرية، فقد استطاعت القوات الفرنسية استعادة القاعدة التي تسيطر عليها بريطانيا عام 1793، وهو ما منح نابليون بونابرت ترقية استثنائية إلى رتبة لواء، في حين كان عمره 24 عامًا، وهو ما لم يحدث من قبل في تاريخ العسكرية الفرنسية.
وصل نابليون بونابرت الصعود والشهرة، وساعده على ذلك انتصار القوات الفرنسية على النمسا وحلفائها عام 1797، ما أدى إلى توقيع اتفاقية السلام في كامبو فورنيو، وهو ما جعل القيادة السياسية والعسكرية تستقبل نابليون كونه أحد أبطال الحرب، وهو ما صعد بطموحات نابليون السياسية إلى قمتها، وجعله ينظر إلى الحكم وقيادة الدولة، وهو ما ساعدته عليه الظروف بعد ذلك، حين تسارعت الأحداث ونتج عنها انقلاب سياسي في البرلمان الفرنسي عام 1799 أدى إلى سقوط نظام الحكم، وتعيين آلية جديدة تسمى القنصلية واختيار نابليون رئيسًا لهذه القنصلية لتزيد سلطاته وصلاحياته بعد ذلك، حتى يعلن نفسه عام 1802 قنصلًا مدى الحياة، ويمهد الطريق لتحقيق أحلامه في أن يصبح أول إمبراطور لفرنسا.
اقرأ أيضًا هل حطّم نابليون أنف أبي الهول؟
الإمبراطور نابليون بونابرت
لم يستمر الحال طويلًا وأعلنت فرنسا نفسها إمبراطورية في عام 1804، وكانت فرنسا في ذروتها ببسط نفوذها على كل من إيطاليا وأجزاء من روسيا وألمانيا والنمسا وبلجيكا، وبذلك تولى نابليون بونابرت حكم الإمبراطورية في ديسمبر 1804، وهو ما باركه البابا والقادة العسكريين، ولم يكتف نابليون بذلك، وإنما أعلن نفسه إمبراطورًا على إيطاليا بعد ستة أشهر، وأجرى مراسم أخرى للتتويج في مدينة ميلانو الإيطالية، وهو ما منحه سلطات واسعة على أجزاء كبيرة من أوروبا في حين كان في الأربعينات من عمره.
اقرأ أيضًا ذلك الشاب الحلبي الغريب الذي اغتال القائد الفرنسي في مصر هل كان هاملتيا؟
ما طموحات نابليون التوسعية؟
كانت طموحات نابليون التوسعية كبيرة بحجم جنونه ودمويته، فلم يكتف بالإمبراطورية التي يحكمها، وإنما شن حملات عسكرية عدة لتوسيع ملكه، فاستهدف كلًّا من بلجيكا والنمسا وهولندا وبريطانيا وروسيا، وشجعه على ذلك الانتصارات المتتالية التي حققها على الحلفاء عام 1805، واستطاع أيضًا أن يضم أسبانيا إلى حدود ملكه حتى إنه نصَّب شقيقه حاكمًا لاسبانيا، وجعل السيادة على القارة الأوروبية مسألة أسرية وشخصية، فوزَّع إخوته على أملاكه والمناطق التي يحكمها، وهو ما استمر حتى عام 1810 ذلك العام الذي تغير فيه كل شيء.
دون سابق إنذار تخلت روسيا عن فرنسا وفي الوقت نفسه تحالفت مع النمسا وبريطانيا، وسمحت للسفن البريطانية بأن تعبر من مياهها، إضافة إلى كثير من الإجراءات العدائية التي مارسها قيصر روسيا ومنها فرض الضرائب العالية على السلع الفرنسية، ما أدى إلى إحداث أضرار كبيرة في الاقتصاد الفرنسي، وما كان من نابليون إلا الاستعانة بجنونه مرة أخرى، وإطلاق حملته لغزو روسيا في شتاء 1812، وعلى الرغم من أن جيش نابليون تخطى 600 ألف جندي، فإنه لقى هزيمة تاريخية، وتحول الأمر إلى كارثة حينما سقط أكثر من 90% من جنود الحملة بسبب الثلوج والبرد القارس والمسافات المفتوحة التي تميز جغرافيا روسيا التي كانت دائمًا سدًّا منيعًا ضد هجمات الأعداء على مر التاريخ.
ازدادت الأمور سوءًا على نابليون عندما شن الحلفاء هجمات متتالية على الجيش الفرنسي؛ أدت إلى خسارة كبيرة في معركة ليبزيغ عام 1813، وجاءت الأخبار من فرنسا بانقلاب البرلمان على نابليون، وهو ما جعله يلجأ إلى التحصن بجزيرة ألبا وإعلان نفسه إمبراطورًا على الجزيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 13 ألفًا معظمهم من القرويين البسطاء، لكن نابليون كان يستعد للزحف إلى فرنسا مرة أخرى، وهو ما حدث عام 1815 فاستطاع السيطرة على الحكم مرة أخرى، ولم يكتف القائد المجنون بهذه المغامرات ذات النتائج الكارثية، وإنما استعد لمعركة جديدة ضد الحلفاء في مدة أسماها المؤرخون (الـ100 يوم) وهي المدة التي قضاها نابليون بين دخوله باريس وهزيمته من الحلفاء في معركة واترلو الشهيرة عام 1815 التي أدت إلى لجوء نابليون إلى بريطانيا من أجل الحصول على المعاملة بصفته لاجئًا سياسيًّا.
لم ترحم بريطانيا الإمبراطور المهزوم ونفته إلى جزيرة سانت هيلانة على السواحل الإفريقية ليقضي بها ست سنوات من النسيان والابتعاد عن السلطة وممارسة الجنون والدموية، حتى مات على أرض الجزيرة عام 1821 لتنتهي قصة الإمبراطور المجنون الذي سعى إلى حكم أوروبا، وانتهى إلى الموت على جزيرة في أطراف إفريقيا وهو في عامه الـ51.
اقرأ أيضًا جوانب خفية من حياة القائد الفرنسي نابليون بونابرت.. تعرف الآن
إنجازات الإمبراطور نابليون بونابرت
حسب إنجازات نابليون كونه حاكمًا لفرنسا، فهو في الحقيقة لم يتولَّ الحكم إلا مدة وجيزة، لكنه تمكن من سن القانون المدني الفرنسي الذي يعد مرجعًا قانونيًّا مهمًّا في عدد من التشريعات في بلاد العالم المختلفة، إضافة إلى تأسيسه البنك المركزي الفرنسي.
استطاع نابليون أيضًا تطوير النظام الإداري الفرنسي عن طريق التقسيم الإداري إلى مقاطعات، ولا تزال فرنسا تعتمد التقسيم نفسه حتى الآن، إضافة إلى تأسيسه لمحكمة الحسابات التي تمارس التدقيق المالي والرقابة الإدارية في فرنسا، وهي الفكرة التي نفذتها في عدد كبير من دول العالم، إضافة إلى تأسيس نابليون لمحكمة النقض ومجلس الدولة وبورصة باريس الشهيرة.
كذلك كان لنابليون إنجازات معمارية مهمة، ومن أشهرها قوس النصر الذي يأتي إليه السياح من كل مكان في العالم، إضافة إلى تمثال لوبليسك الموجود في ساحة الكونكورد الذي يحد جادة الشانزليزيه أشهر معالم باريس.
وفي نهاية جولتنا التي تناولت الوجه الإمبراطوري لنابليون بونابرت نتمنى أن نكون قدمنا لك المعرفة والمتعة.
ويسعدنا أن تشاركنا رأيك في التعليقات ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.