بينما يشتهر الموريتانيون بالفصاحة وغزارة العلم ونبل الأخلاق، فإن قليلًا من يعرف أن موريتانيا أنجبت أبطالًا ومناضلين دافعوا عن بلدهم وحريتهم ضد المحتل الفرنسي، ومن هؤلاء الرجال كان البطل محمد ولد إمسيكة.
“قل ذاك لمن ينوي الإقامة في ألاك”
يضربون هذا المثل لمن أراد خصومه أن يحزبوه بأمر لا منجى له منه، فرأى بكل ثقة واطمئنان أن خلاصه أقرب مما يعدونه به. وقصة هذا المثل أن البطل الشهير محمد ولد إمسيكة أمسكت به ذات مرة دورية للمستعمر الفرنسي، فسلموه لحاكم مقاطعة “ألاك”، وقرر أن يودعه السجن، ثم قال له -منكئًا شامتًا-: ستنال جزاءك العادل خلف هذه القضبان، وسيشرب البعوض من دمك، فقد اقترب فصل الخريف، ولا منجى لك من لدغ الحشرات التي تكثر في موسمه. فرد عليه محمد ولد إمسيكة بكل ثقة: “قل ذاك لمن ينوي الإقامة في ألاك”، أي توجه بكلامك لمن ينوي الإقامة في ألاك مدة الخريف.
فاشتهرت كلمته ولاكتها ألسنة العامة، وصارت مضرب الأمثال، وفعلًا وفى ولد إمسيكة بما قال، وتمكن من مخادعة سجانيه والفرار من السجن، ليسيح في الصحراء الموريتانية مترامية الأطراف، ويعجز الفرنسيون عن الإمساك به، فرصدوا مكافأة لمن يدلهم عليه دون جدوى، ثم زادوا المكافأة وجعلوها لمن يأتي بولد إمسيكة حيًّا كان أو ميتًا.
فعندها، فعلت الإغراءات فعلها، وتمكن الطمع من قلوب الرجال، فغدر بولد إمسيكة اثنان من مقربيه طمعًا في الجائزة، لكنهما لم ينالاها، ولحقهما الندم والعار. فيُروى أن أحدهما مات مخبولًا، والثاني لم يلذ له عيش بعد غدره بصديقه.
ويروون أن محمد ولد إمسيكة ظهر لأحد مقربيه في منامه ولقنه البيتين التاليين:
قل لسامٍ وعبدات والقوم لكردِ بيد ** عن يومِ الدنيا أراهُ فات ألقاهم يوم الوعيد
وقد زود ولد إمسيكة اللهجة الحسانية بمجموعة من الأمثال، منها ما ذكرناه آنفًا: “قل ذاك لمن ينوي الإقامة في ألاك”، و“ينسخ ملل”، و“ذاك إلا كلام صمب في بيته”، وقد أوردنا مناسبة كل منها. وبقي: “لا بخلان” وهو يُضرب لمن استفرغ وسعه وبذل جهده ليظفر بالمطلوب.
“لا بخلان”
وقصته أن محمد ولد إمسيكة نزل ذات ليلة ضيفًا عند قوم، فأحسنوا مثواه وأكرموا نزله، ولما تأخر الليل، سمع مضيفه يعد زوجته بإمساك ولد إمسيكة وإحضاره حيًّا بين يديها، وهي تحاول أن تثنيه عن عزمه وتحذره من اعتراض طريق ولد إمسيكة، فقد أمسك بجميع الذين تعرضوا له وبادرهم بضربات أفقدتهم هيبتهم.
ولما أشرقت الشمس، أراد ولد إمسيكة الرحيل، فخرج معهم الرجل لتوديعه. فلما أصحرا، سأله ولد إمسيكة عن وعده، فقال: “أنت هو محمد ولد إمسيكة؟”، فأجاب: “نعم”. فارتعدت فرائص الرجل وابتلَّت ثيابه، ثم قال: “لا تؤاخذني بما سمعت، فإنما هو كلام أتسلى به مع زوجتي”.
فضحك ولد إمسيكة وخلى سبيله، وقال: “لا جرم، لقد أحسنت إليَّ ولن أكافئك بإهدار دمك، فعد إلى قومك واحفظ مني العبارة التالية: (لا بخلان)”.
فعاد الرجل يرتجف من الخوف وهو يكرر: “لا بخلان”، فظن قومه أنه رأى شبحًا مخيفًا أو واجه حيوانًا مفترسًا، فسألوه عن شأنه، ليخبرهم بما جرى بينه وبين محمد ولد إمسيكة، فصارت كلمته “لا بخلان” مضرب الأمثال.
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.