في إطار المقارنة بين دينارية البديع ودينارية الحريري نتبيَّن أنَّه، وفي سبيل تحصيل الدّينار، يدعو الراوي في كلتا المقامتين إلى إقامة جولتين تتضمَّنان منافسة مخصوصة في فنِّ تصريف القول.
اقرأ أيضًا: أمثلة على اللعب الأدبي وحدوده بين مقامات البديع والحريري
مقارنة بين دينارية البديع ودينارية الحريري
أمّا فحوى البديعية فإيفاء نذرٍ بإعطاء الدينار لأشحذ رجل ببغداد. ولمَّا ظهر للإسكندريّ منافس وجب أن يتحقَّق الراوي من أشحذهما. فاقترح مسابقة في "فصاحة السّباب والشتائم"، وهو ما يمنح فرصة للتحقُّق العمليّ من هوية أشحذ الرجلين. وقد انتهى ذلك بتقاسمهما المبلغ المذكور.
وفي الوقت الذي بقيت فيه المنافسة على حالها في المقامة الدينارية الحريرية، فإنَّها شملت البطل ذاته عبر الانتقال في نظم الشعر بين غرضين متقابلين وهما مدحُ الدِّينار ومن ثمَّ ذمه. فهي منافسة في كلا المقامتين، لكنها تغدو منافسة يتحدَّى فيها البطل ذاته في المقامة الحريرية، فيمتحن فيها قدُراته التي أسعفته في الحالتين، فحصل على الدِّينار مرَّتين، دون أن ننسى وقوفه على الراوي في بداية المقامة على شاكلة تليق بالشحَّاذين، فقد كان أعرجَ يحمل أسمالًا باليةً، أخذ يشتكي الدهر وتقلبه بأهله.
أمَّا المقامة البغدادية عند البديع والحريري، فتدور عن حيلة أو كدية مخصوصة قام بها الراوي في المقامة البديعية، في حين قام بها البطل بنفسه في المقامة الحريرية باستعمال تنكُّر لا يخطر ببال، إنه التجاؤه لاستعمال زيّ عجوز في ذلك تستتلي "فتيانا أنحف من المغزل". فحيث خدع الراوي "سواديًّا" بسيطًا بتقمَّص دور مرتبط بحكاية مختلقة عند البديع، ها هو السروجي/العجوز يوقع بجماعة من الشعراء رافقهم الحارث ابن همام ودار بينهم حديث مطوَّل في أحد الأندية دام ساعات طوالًا.
ما أعقب ذلك تعبًا جسديًّا شمل الراوي ورفاقه، اقترن بظهور البطل/العجوز شحَّاذًا يستعمل آلات المخاطَبين ذاتهم: أي الفصاحةَ وقولَ الشِّعر. إذ أبدعت العجوز في استعمال الكنايات مقترنة بالجِناسات فضلًا على السجع. فأبرزت بذلك بديهة مميَّزة وفصاحة فائقة في استعمال النثر:
-العجوز-
"اغبرَّ العيشُ الأخضرُ. وازورَّ المحبوبُ الأصفرُ. واسودَّ يوميَ الأبيضُ. وابيضَّ فوْدي الأسودُ. حتى رثى ليَ العدُوُّ الأزرقُ..."
ثم دعمت كل ذلك بالإبانة عن قريحة شعرية استثنائية وردت على شاكلة قصيدة تكونت من سبعة عشر بيتًا. وقد راوحت فيها بين شكوى البلاء وبين الاستجداء باسم الأطفال الذين يشكون الهُزال والذين استتلاهم البطل/العجوز خلفه، ومن ضمن ذلك المقطع الشعري نذكر:
-أبو زيد السروجي متنكِّرًا على هيئة عجوز-
"فمحملي بعد المطايا المطا * وموطِني بعد البِقاع الحضيضُ
(...) فهل فتىً يكشِفُ ما نابَهُمْ * وينعم الشُّكْرَ الطّويلَ العريضَ.."
وعند انكشاف حقيقة أمرها للراوي أنشد البطل من ضمن ما أنشد:
-أبو زيد السروجي المتنكِّر على هيئة عجوز-
"وكم برزْتُ بعُرْفٍ * عليْهِمُ و بِنُكْرِ (...)
أصطاد قوماً بوعظٍ * وآخرينَ بشِعْرِ."
وقد اختتم أبياته المذكورة باعتذاره من الراوي ورفاقه.
إنَّ لشأن الإبداع عند الحريريّ أمر مخصوص في علاقته بالنموذج البديعي. فإذا بالقالب السردي العام يتكرر، في حين يقع التصرُّف فنيًّا في بعض تفصيلاته، بغاية إبراز نموذج للبطل المُكدّي يتجاوز النموذج البديعي فيحقَّق التفوق عليه فنيًّا.
إنها ثنائية عبَّر عنها أحد الباحثين تتمثَّل في دخول الحريري في عملية إبداعيَّة مخصوصة تقوم على ثنائية هي: "التقليد" و"الانعتاق عن النموذج" (عبد الفتاح كيليطو)، وليس له في ذلك من رهان إلا التجاوز والإضافة والبروز.
اقرأ أيضًا: من الجماليات البلاغية في الرسائل النبوية
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.