يبدو أن الصورة المألوفة والعلمية للفيلسوف قد تأكدت من قبل الأفلاطونية: الفيلسوف كائن صاعد يخرج من الكهف ويصعد، وكلما نهض يتطهَّر.
ضمن هذه "الروحانية الصَّاعدة"، نسجت روابط وثيقة للغاية بين الأخلاق والفلسفة من ناحية، وبين المثل الأعلى النسكي والمثل الأعلى للفكر من ناحية أخرى، هذا يعتمد على الصورة المألوفة للفيلسوف وهو يسبح في السحب، وكذلك صورته العلمية، لأن سماء الفيلسوف هي سماء معقولة.
اقرأ أيضاً الفسلفة ونقد المبادئ الفلسفيّة (1)
المثالية.. المرض الفلسلفي لفكر أفلاطون
لكنَّنا لا نتفاجأ بالأرض لأنَّ لها قوانينها، ففي كلتا الحالتين يحدث كل شيء في الارتفاع (حتى لو كان ارتفاع الإنسان في سماء القانون الأخلاقي)، عندما نسأل: ما الذي يدور في الفكر؟ يبدو أن الفكر نفسه يفترض المحاور والاتجاهات التي يتطوَّر من خلالها، وأنه يمتلك الجغرافيا قبل أن يكتسب التاريخ، وأنه يرسم الأبعاد قبل بناء الأنظمة.
الارتفاع هو الشرق الأفلاطوني، لذلك يُعرَّف عمل الفيلسوف بأنه الصعود والارتداد؛ أي حركة عودة نحو مبدأ الارتفاع الذي ينطلق منه، وحركة العزم والوفرة والمعروفة بحكم هذه الحركة.
لن نقارن الفلاسفة بالأمراض لكن توجد أمراض فلسفية حقيقية؛ فالمثاليَّة هي المرض الأخلاقي للفلسفة الأفلاطونية، الشكل المهووس بالإحباط للفلسفة نفسها من خلال تقلباتها، الهوس يلهم أفلاطون وينشطه، الجدل هو هروب الأصنام، كما يقول أفلاطون: "المعبود يهرب أو يموت..." حتى في وفاة سقراط، كان توجد شيء من الانتحار المؤسف.
اقرأ أيضاً الفرق بين الروح والنفس
تساؤلات نيتشه حول المثالية
يتساءل (نيتشه) عن هذا الاتجاه التصاعدي، ويتساءل إذا لم يكن بالأحرى، بعيدًا عن تمثيل ذروة الفلسفة والانحلال والهذيان الذي بدأ مع سقراط... نشأت أبعاد أخرى كمفكِّر في الحياة؟
اقترح (نيتشه) طريقة اخترعها بنفسه: لا يجب إرضاء السيرة الذاتية ولا الفهرسة، ولكن يجب الوصول إلى نقطة سرية، حيث يكون الشيء نفسه حكاية فيما يتعلق بالحياة، وحكمة مقارنة بالفكر، وهذا يعني أن المعنى يُنسب من ناحية إلى حالات الحياة.
ومن ناحية أخرى يظل موجودًا في رهانات الفكر، هنا توجد أبعاد وأزمنة وأماكن، أحزمة جليدية أو دافئة ولكنها غير معتدلة أبدًا، كل الجغرافيا الغريبة التي تميِّز طريقة التفكير بقدر أسلوب الحياة، ربما كان لدى (Diogenes Laerte) معنى صوفي من خلال صفحاته الرائعة: لاكتشاف ثوابت الحياة التي هي في الوقت نفسه قصصيَّة للعقل، الفلاسفة المبتدئون.
يشكل (إيمبيدوكليس) وبركان (إتنا) أسطورة فلسفية، إنه يعادل موت سقراط، لكنَّه يعمل بدقَّة في بُعد آخر، الفيلسوف ما قبل سقراط لا يغادر الكهف أبدًا، على العكس من ذلك، يرى أننا لا نشارك فيه أو ننغمس فيه كفايةً، ما يرفض في ثيسيوس هو الخيط: ما يهمُّنا هو طريقك المرتفع، خيطك الذي يقود إلى الخارج، نحو السعادة والفضيلة... هل تريد أن تنقذنا بهذا الخيط؟ ونسألكم بإلحاح: أنا مرتبط بهذا الموضوع.
أسس فلاسفة ما قبل سقراط الفكر في الكهوف والحياة في الأعماق، لقد شقُّوا أعماق الماء والنار، مارسوا الفلسفة بضربات بالمطرقة، فحطم (إيمبيدوكليس) المعالم الأثرية، ومطرقة مملكة الأرض أو حرب العصابات.
اقرأ أيضاً لغة الفلسفة.. الصعوبات التي تواجه الفيلسوف و قضايا الفلسفة الرئيسية
الأعماق الوسيطة بني نيتشه وفلسفة ما قبل سقراط
أطلق البركان المتفجر الماء والنار، من (إيمبيدوكليس) شيء واحد فقط وهو صندل الرصاص، مقابل أجنحة الروح الأفلاطونية يقف صندل (إمبيدوكليس)، الذي أثبت أنه من الأرض وتحت الأرض وأنه مواطن أصلي، ضربة الجناح الأفلاطونية ضد ضربة مطرقة ما قبل سقراط، التحويل الأفلاطوني مقابل الانحراف ما قبل سقراط.
يبدو أن الأعماق الوسيطة لـ(نيتشه) هي المعنى الحقيقي للفلسفة: فقد وجد الاكتشاف ما قبل سقراط في فلسفة المستقبل كل القوى من أجل الحياة التي نفَكِّر فيها أيضًا، أو للغة التي هي أيضًا جسد، "خلف كل كهف يوجد عالم أعمق، وخلفه يوجد عالم آخر أعمق وأوسع وغريب وأكثر ثراءً تحت السطح، هوة فوق كل أساس، وراء كل أساس".
أولًا: الفصام، إن ما قبل سقراط هو حقًا فصام فلسفي، وهو العمق المطلق المحفور في الأجساد والفكر، وهو ما جعل (هولدرلين) يكتشف (إمبيدوكليس) قبل (نيتشه) في الخلافة المشهورة وفي تكامل الكراهية والحب.
نواجه جسد الكراهية والجسد مصفى وممزق؛ رأس بلا رقبة، وذراع بلا كتف، وعينان بلا جبين، ومن ناحية أخرى، بالجسد المنتصر الذي ليس له أطراف "شكل" ولا أعضاء ولا صوت ولا جنس، يجذبنا أيضًا إلى وجه (ديونيسوس)، وجسده المفتوح والممزق، ورأسه بلا أطراف، و(ديونيسوس) المقطوع، وأيضًا (ديونيسوس) المنيع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.