مملكة سبأ القديمة.. أسرار مدينة الثراء في الحضارة اليمنية

سبأ المملكة العربية القديمة التي سطع نجمها في اليمن بفضل موقعها الإستراتيجي على طريق البخور وثرواتها الهائلة. اكتشف في هذا المقال الشامل الموقع الجغرافي الدقيق لمدينة سبأ، وشاهد كيف صنعت نهضتها الاقتصادية والعمرانية معجزة سد مأرب. ونتعمق في نظام الحكم والسلطة بقيادة الملكة بلقيس، ونتعرف على ديانتها وثقافتها الغنية وأسباب انهيار هذه الحضارة العريقة التي لا يزال صداها يتردد في التاريخ والقرآن الكريم.

موقع مملكة سبأ

تقع مدينة سبأ في اليمن الحالي، وتحديدًا في منطقة مأرب التي كانت يومًا عاصمة المملكة السبئية. وقد منحها موقعها الاستراتيجي على طريق البخور والتجارة القديمة، ميزة اقتصادية هائلة، فقد كانت تتحكم في تجارة البخور واللبان والمرِّ والذهب والبهارات؛ ما جعلها واحدة من أغنى المدن في ذلك العصر، وقد جعلها هذا الموقع مركزًا تجاريًا عالميًا في العصور القديمة، حيث كانت قوافلها تصل إلى مواني البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا وبلاد الرافدين، حاملةً أثمن السلع التي يطلبها العالم القديم. هذا الاحتكار التجاري منحها نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا.

موقع مملكة سبأ

النهضة الاقتصادية والعمرانية

كانت مملكة سبأ حضارة زراعية وتجارية متقدمة للغاية. وقد اشتهرت ببناء سد مأرب، الذي يُعدُّ معجزة هندسية في زمانه، إذ استطاع أن ينظم المياه لري الأراضي الزراعية الواسعة؛ ما وفَّر للمدينة الأمن الغذائي والثروة الزراعية. هذا السد كان حجر الأساس في استقرار المملكة وازدهارها، تُشير الدراسات الهندسية الحديثة إلى أن سد مأرب كان قادرًا على حجز ما يقدر بنحو 250 مليون متر مكعب من المياه، وهو ما سمح بزراعة ما لا يقل عن 10 آلاف هكتار من الأراضي، ما جعل المنطقة القاحلة إلى جنة خضراء. وقد تطورت تقنيات الإرواء لديهم لتشمل القنوات والجداول المعقدة.

بنت مملكة سبأ معابد ضخمة، مثل معبد أوام، الذي عُرف أيضًا باسم «محرم بلقيس»، وقد كان مركزًا دينيًا مقدسًا وموقعًا أثريًا مهمًا؛ ما يدل على تطورهم في فنون العمارة والنحت والديانة، يُعد معبد أوام من أكبر المعابد في شبه الجزيرة العربية القديمة، فيبلغ طوله نحو 100 متر وعرضه 80 مترًا، ويتميز بنقوشه التي تصور الآلهة والشعائر الدينية، وتحتوي المعلومات الكثيرة عن الحياة الدينية والاجتماعية في سبأ، إضافة إلى تماثيل برونزية رائعة تجسد مهاراتهم الفنية الرفيعة، كما عُثر على كتابات تشير إلى نظام كهنوتي متطور ومخصصين لخدمة الآلهة.

السلطة والحكم في سبأ

حكم مملكة سبأ ملوك وملكات عظماء، وكان من أبرز رموزها الملكة بلقيس، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وسُلط عليها الضوء في قصة لقائها بالنبي سليمان عليه السلام. ويشير هذا اللقاء إلى المكانة العالية لسبأ سياسيًا واقتصاديًا، وإلى ذكاء ودهاء قادتها.

يُرجح المؤرخون أن فترة حكم الملكة بلقيس كانت في القرن العاشر قبل الميلاد، وأن مملكتها كانت تتمتع بنظام حكم مستقر وقوة عسكرية واقتصادية نافذة، ما جعلها طرفًا مهمًا في التحالفات والصراعات الإقليمية في ذلك الوقت، ويُعدّ دليلًا على العلاقات الدبلوماسية والتجارية التي كانت تربط سبأ بالممالك الأخرى في المنطقة.

بلقيس ملكة سبأ

اعتمد نظام الحكم في سبأ على بنية هرمية، وكان للملك سلطة مطلقة، مدعومة بطبقة من الكهنة والمستشارين والكتَّاب. وقد ترك السبئيون نقوشًا بخط المسند، تروي لنا قصص الملوك، والحروب والتحالفات والمعابد والسدود ويُقدر عدد النقوش السبئية المكتشفة بالآلاف، وهي تقدم معلومات تفصيلية عن مختلف جوانب الحياة في المملكة، بما في ذلك القوانين التجارية، وتنظيم المجتمع، والأحداث التاريخية المهمة. وقد أسهمت هذه النقوش في فهمنا لتاريخ جنوب الجزيرة العربية، ويُعدّ خط المسند من أقدم الأبجديات في العالم، وقد تم فك رموزه ليكشف لنا كثيرًا عن تاريخ هذه الحضارة.

الديانة والثقافة

كانت ديانة السبئيين وثنية في البداية، فقد عبدوا آلهة عدة مثل الإله «إلمقه» أو «إيل مقة»، وإله القمر، وقد مارسوا شعائر دينية معقدة، من بينها تقديم القرابين، والاحتفالات الموسمية، والعادات الزراعية، واشتهروا بفن الشعر، والحِكم، والنقوش، وكانوا يستخدمون خط المسند، وهو من أقدم الخطوط العربية.

كان الإله «إلمقه» يعد الإله الرئيس للدولة ورمزًا للقوة والخصوبة، في حين كان إله القمر «عثتر» يحظى بمكانة مهمة أيضًا، وكان مرتبطًا بالزراعة والطقس. وقد عُثر على مذابح وأدوات قربانية تشير إلى تطور شعائرهم الدينية. كما ازدهر لديهم الشعر الذي تناول موضوعات دينية واجتماعية وتاريخية.

انهيار المملكة

على الرغم من عظمتها؛ لم تسلم سبأ من عوامل الضعف والانهيار. ففي القرن السادس الميلادي تقريبًا، بدأ السد يتعرض لانهيارات متكررة؛ ما أدى إلى موجات هجرة جماعية وخلل اقتصادي كبير، ولعبت الصراعات الداخلية والتنافس مع ممالك أخرى مثل حِمير وقتبان دورًا في زوال هيبتها، وتُشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الانهيار النهائي لسد مأرب حدث نحو عام 575 ميلاديًا، وكان له تأثير كارثي على اقتصاد المنطقة واستقرارها، ما أدى إلى تفكك المملكة وهجرة عدد من سكانها إلى مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية.

انهيار سد مأرب

وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ...} [سورة سبأ: 15-16]، يُفسر (سيل العرم) تاريخيًا بأنه الفيضان الهائل الذي نجم عن انهيار سد مأرب، ويُستخلص من الآيات عبرة عن أهمية الشكر والحفاظ على النعم الإلهية.

بقي أن نقول إن مدينة سبأ واحدة من أهم شواهد التاريخ العربي القديم، وحضارة تستحق أن تُكتشف تفاصيلها وتُروى قصصها. إنها مثالٌ على كيف يمكن لموقع جغرافي، وسياسة حكيمة، وموارد طبيعية، أن تصنع مجدًا يستمر في الذاكرة آلاف السنين. وعلى الرغم من أن أطلالها اليوم ساكنة، فإن رُوحها لا تزال حيَّة في نقوشها، وآثارها، وذكراها في الكتب السماوية والتاريخية، وتستمر البعثات الأثرية في الكشف عن مزيد من أسرار هذه الحضارة، وتقدم لنا فهمًا أعمق لتطور الحضارات في جنوب الجزيرة العربية وتأثيرها على المنطقة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.