ونعاود الآن حديثنا الملهم عن حياة طفل ريفي مشاكس غيَّر وجه دولة بِرُمَّتها، عمل يده قائم فيها حتى الآن، علي باشا مبارك، أول وزير تعليم في مصر...
قصة علي مبارك بعد خروجه من السجن
بعد أن تحدثنا في الجزء الأول عن بداية علي باشا مبارك، نكمل قصته بعد ما أخذ والده أمر إخلاء السبيل من العزيز، وذهب إليه ليخرجه من السجن، وقبل أن يصل أتى للسجَّان صديق له يعمل خادمًا لمأمور زراعة القطن في "أبو كبير" بمحافظة الشرقية، وأخبر السجَّان أن المأمور يحتاج إلى كاتب للعمل معه. ولأن السجَّان قد رقَّ قلبه تجاهه، دلَّ صديقه عليه واصفًا إياه بالنجابة والخط الحسن، وذكر المشكلة التي دخل السجن بسببها.
فطلب الخادم من علي أن يكتب له ورقة ليعرض خطه على المأمور، وقد كان، فكتب علي عريضة بخط حسن معتنٍ بها، وسلمها للخادم مع غازي ذهب قيمته عشرون قرشًا لكي يمهد له الطريق، ووعده بأكثر من ذلك لو قُبل، ثم بعد قليل عاد بأمر الإفراج، واصطحب علي إلى المأمور، وهنا تغيَّر مسار حياة علي مبارك، أو بالمعنى العامي "دخلنا في الجد".
مذكرات علي مبارك مع مأمور زراعة القطن
لا شكَّ أن مقابلة علي مبارك مع مأمور زراعة القطن، الذي كان يُسمى عنبر أفندي، كانت مصدر إلهام وتعجب في الوقت نفسه، فقد وجده رجلًا أسود البشرة، حبشيًّا، كأنه "عبد مملوك" على حد وصفه، ولكن بالرغم من ذلك وجد الحكام والمشايخ يقفون بين يديه بإجلال، مستمعين لتعليماته، وقد كان يعرف منهم أشخاصًا ذوي سلطات وثروات وخدم وحشم، فكان ذلك الأمر عجيبًا، لأن العادة جرت في ذلك الوقت أن يكون الحكام من الأتراك، ويذكر علي باشا مبارك ذلك الأمر قائلًا: "وبقيت متعجبًا، متحريًا في السبب الذي جعل السادة يقفون أمام العبيد ويُقبِّلون أيديهم، وحرصت كل الحرص على الوقوف على هذا السبب، فكان ذلك من دواعي ملازمتي له".
بعد ما خرج الناس من عند عنبر أفندي، دخل عليه علي وقبَّل يده، فحدَّثه "بكلام رقيق عربي فصيح"، وعرض عنبر أفندي عليه أن يعمل كاتبًا عنده، بمقابل جراية (بكسر الجيم، وهو نظام يحدد السلع التي يحتاج إليها الفرد) كل يوم، ومرتب شهري قدره خمس وسبعون قرشًا، فوافق. ومن أسباب موافقته، هو ما رآه من المكانة الاجتماعية التي حظي بها ذلك الرجل، على الرغْم من أنه من ذوي البشرة السمراء الذين لم يكن لهم في ذلك الزمان أي فرص تُذكر.
في اليوم التالي، جاء والد علي مبارك بأمر الإفراج الذي جاء به من العزيز، فسلَّم عليه علي وقدَّمه إلى عنبر أفندي، فعامله الأخير ببشاشة وأكرمه، وخرج الأب مسرورًا. وكما ذكرنا أعلاه، ظلَّ أمر عنبر أفندي يشغل بال علي، ففي الليل دارت محادثة بينه وبين والده عن ذلك المأمور، فقال:
علي: هذا المأمور ليس من الأتراك لأنه أسود؟
الأب: يمكن أن يكون عبدًا عتيقًا.
علي: هل يكون العبد حاكمًا، مع أن أكابر البلاد لا يكونون حكَّامًا، فضلًا على العبيد؟
الأب: (بأجوبة لم تقنع علي) لعل سبب ذلك مكارم أخلاقه ومعرفته.
علي: وما معرفته؟
الأب: لعله جاور بالأزهر وتعلَّم فيه.
علي: هل التعلم في الأزهر يؤدي إلى أن يكون الإنسان حاكمًا؟! ومن خرج من الأزهر حاكمًا؟
الأب: يا ولدي، كلنا عبيد الله، والله تعالى يرفع من يشاء.
علي: مسلمٌ، لكن الأسباب لا بد منها.
وفي نهاية الحوار، بدأ الأب يعظه ويذكر له حكايات وأشعارًا لم يقنع بها، ثم أوصاه بطاعته، وبعد يومين سافر الأب.
علي مبارك والسعي للتحرر
بعد ذلك، دارت في رأسه فكرة أخرى، وهي أنه بسبب مهنة الكتابة دخل السجن ووضعت الأغلال في رقبته، حتى جاء المأمور وخلَّصه. ولكن إن سجنه المأمور، فمن يخلِّصه حينها؟ وظل ذلك السؤال يؤرقه ويشغل باله، إذ كان يريد أن يعيش في حال لا ذلَّ فيه.
وبعدها تعرَّف على فراش ذلك المأمور، وأخذ يسأله عنه وكيف وصل لما وصل إليه، ولكن بأسلوب حذر، إذ كان يخلط أسئلته بكلام آخر حتى لا يلفت الانتباه، حتى عرف أن عنبر أفندي هذا كان مُشترى من "ست من الستات مرعيات الخواطر" بحد قوله، وأن سيدته أدخلته مدرسة "قصر العيني"، التي يدرسون فيها مختلف أنواع الفنون، كالحساب، والخط، واللغة التركية، وغير ذلك من العلوم والفنون.
وأضاف جملة أشعلت حماسه، ألا وهي أن "الحكام يُؤخذون من تلك المدارس". وحينها، حاك في صدره دخول تلك المدارس، فسأل عن إمكانية أن يدخلها الفلاحون، فأخبره الفراش أن أصحاب الواسطة فقط من يدخلونها. ولكن ذلك لم يُحبط علي، بل شغل باله أكثر، ولم ييأس.
واستزاد علي في الأسئلة عن المدرسة، وطريقها، وكيفية الإقامة بها، فأخبره الفراش بكل ذلك، وأثنى على إقامة الطلاب في تلك المدارس، وحسن الطعام والملابس، وإكرام الطلبة بها، فزاد شوقه، وكان يُدوّن كل ما أخبره به الفراش من بيان الطريق والمسافة وكل البلدان في الطريق.
من سار على الدرب وصل.. ماذا فعل علي مبارك؟
وكما توقعت، فقد قرر علي أن يذهب إلى المدارس لشقِّ طريقه، فطلب الإذن من عنبر أفندي لزيارة أهله، فأذن له بخمسة عشر يومًا، ولكنه لم يذهب للأهل، بل بدأ بالسفر لمدرسة قصر العيني، حتى وصل إلى قرية "بني عياض"، فقابل أطفالًا يقودهم رجل خياط، ومع كل واحد منهم دواة وأقلام، وتحدث معهم، فعرف أنهم تلامذة من مكتب "منية العز"، وعندما رأوا خطه انبهروا به ووجدوه أحسن من خطوطهم، فقال بعضهم لبعض:
"لو لحق هذا بالمكتب لكان جاويشًا".
فقال الخياط: "ذلك قليل عليه؛ فإن خط الباشجاويش الذي عندنا لا يساوي هذا الخط".
فسألهم: ما الجاويش؟ وما الباشجاويش؟ فأخبروه أنهم المقدمون في المكتب. وكما عهدنا علي، لا يترك شيئًا لا يعرفه، فاستفهم عن المكتب، فأجابوه، وجعل الخياط يُحسِّن له أوصافه، ويغريه ليدخله. وصدقًا، من سار على الدرب وصل، فأخبره الخياط أن نجباء المكاتب ينتقلون إلى المدارس بلا واسطة، وذلك غاية مرغوبه.
وكما توقعت، لم يسمح علي للفرصة أن تذهب، ولكن تأتي الرياح أحيانًا بما لا تشتهيه السفن، فحين دخل المكتب وجد ناظره من معارف والده، وأراد بشدة منعه من الدخول إرضاءً لوالده، فرفض، وبقي في المكتب خمسة عشر يومًا، إلى أن أتى الأب بعد ما أرسل له الناظر.
فلمَّا وصل، أخبره الناظر بأمر علي ورغبته العارمة في الدخول، لدرجة أنه هدده بالشكوى لو لم يلتحق بالمكتب. فدبَّرا معًا حيلة لأخذه على حين غفلة، فانتظرا خروج الطلبة للفسحة والأكل في الظهر، فاختطفه الأب إلى بلدهم، وحبسه في البيت نحو عشرة أيام.
أهم إنجازات علي مبارك في طفولته
بعد الحبس، أخذت الأم المسكينة تبكي منه وعليه، وتستعطفه للرجوع عما في رأسه، فوعدها بذلك إرضاءً لخاطرها، فأطلقوه، وأبعدوه عن الكتابة خوفًا من أن تكون سببًا لفراقهم، وأخذ يرعى أغنامًا لهم، حتى اطمأنوا إلى صرفه النظر عن التعليم.
ولكن، إن كان ذلك صحيحًا، لما كنا لنكتب هذا المقال أصلًا، ولم نكن لنعرف أو نسمع عن شخص اسمه علي مبارك!
كل ذلك كان من تدبير علي، ليتسنى له الهرب والعودة لإكمال طريقه الذي اختاره، ولم يَنثَنِ عنه، ولم تفارقه الفكرة يومًا، إلى أن انتهز فرصة في ليلة من الليالي، بعد أن نام الأهل، فأخذ دواته وأدواته، وخرج خائفًا يترقب، متوجهًا إلى منية العز، في ليلة مقمرة.
وتلك الليلة كانت آخر عهده بسكناه بين أبويه، ماشيًا في طريق طويل، ظاهريًّا ينتهي في منية العز، ولكن فعليًّا ينتهي عند بلوغ آماله التي هي أصلًا لا تنتهي. وسنعرفها أكثر في المقال القادم، فانتظروه.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.