في هذا المقال نقدم ملخص الفصل الثاني من رواية "بمباشي باروك مصر" للكاتب الإنجليزي ساكس رومر، وهو كاتب روائي من المملكة المتحدة.
شق بمباشي باروك طريقه نحو النادي، مستمتعًا بالمشهد والضجيج والروائح التي تملأ شوارع القاهرة. حياته كانت انعكاسًا لتجربة فريدة، فقد نشأ في كنف أبٍ عربي ثري، ثم تلقى تعليمه في مدرسة إنجليزية عامة بناءً على رغبة والدته؛ ما جعله رجلًا غير اعتيادي. بدا باروك متألقًا في زيه الرسمي، حيث كانت بنيته النحيلة وساقاه الطويلتان توحيان بالرشاقة والقوة، أما بشرته السمراء وعيناه الزرقاوان فقد شكلتا تباينًا لافتًا للنظر.
العميل البريطاني «A 14»
عندما دخل النادي، وجد الكولونيل رودن-باين واقفًا قرب النافذة، يدقُّ الأرض بقدميه كما لو كان حصانًا محبوسًا في إسطبله. لطالما رأى باروك في هذا الرجل شَبَهًا بالخيل البيضاء، غير أن الاحترام المتبادل بينهما والصداقة التي جمعتهما جعلت ذلك التشبيه محببًا لديه. بدون مقدمات، شرع الكولونيل في الحديث، عارضًا قصة غريبة تخلَّلتها تفاصيل غير مترابطة، حتى إن باروك، الذي كان قد أشعل غليونه، لم يلحظ متى انطفأ.
تحدث رودن-باين عن سلسلة من الضربات التي تعرض لها جهازه خلال غياب باروك، مشيرًا إلى اختفاء أحد أهم رجاله في المنطقة الواقعة بين أنقرة ودمشق وبغداد. الرجل المختفي، وهو أرمني يعمل بائعًا متجولًا للسلع الرخيصة، كان يؤدي دورًا مهمًا في نقل المعلومات، وقد كان يحمل رسالة على قدر كبير من الأهمية عند اختفائه؛ ما زاد خطورة الأمر.
الافتراض الأول كان أنه تعرض لهجوم من قُطاع الطرق، لكن غياب أي تقارير فرنسية عن هجمات مشابهة جعل الاحتمالات مفتوحة على تفسيرات أخرى. في قلب دمشق، حيث تتشابك المصالح وتتصارع القوى، كان الألمان ينشطون، يقودهم ضابط يُدعى روزنر، إلى جانب عميل بارع يحمل الاسم الرمزي «Z»، وهو النظير المباشر للعميل البريطاني «A 14».
أهمية العميل «A 14» لا جدال فيها، فقد كانت تقاريره غاية في الدقة، حتى إنه حذر من انقلاب بغداد قبل وقوعه بأسبوع. لم يكن هناك مجال للمخاطرة بفقدان هذا الاتصال الحيوي، لذا قرر رودن-باين إرسال باروك للتحقيق في الأمر، رغم اعتراض الأخير على دوره المتكرر في تعقب المفقودين بدلًا من أداء مهامه العسكرية المعتادة.
في شوارع دمشق، تحت أشعة الشمس التي أعادت الحياة إلى مآذنها القديمة، وبين البازارات المغطاة وأزقَّتها الضيقة، كانت الأخبار تنتقل همسًا بين التجار والمارة. عند إحدى النوافير العتيقة، جلس درويش قذر المظهر، عيناه تلمعان بحدة تحت عمامته الخضراء، يترقب المشهد حوله بصمت مريب.
في اللحظة ذاتها، ظهرت امرأة زنجية تحمل سلة خضار فوق رأسها، تبعها شاب نحيل يضع وردة حمراء بين شفتيه. بملابسه الأنيقة وعمامته الزرقاء، بدا أشبه بشاعر مستهتر يتأمل العالم بلامبالاة. عندما اقتربت المرأة من النافورة، انحنى الدرويش نحوها هامسًا بطلب غريب، طالبًا خَسَّة ذات أربعة عشر ورقة. تبادلا بعض الكلمات الغامضة، ثم ناولته الخَضراوات التي طلبها قبل أن تغادر مسرعة.
لم يمضِ وقت طويل حتى نشبت مشاجرة عنيفة بين الدرويش والشاب، فقد أمسك الأول بالآخر وبدأ بضربه بعصاه بعنف، متهمًا إياه بالكفر. أثارت الواقعة ضجة في السوق، حتى إن أحد التجار تدخل لإنهائها، محذرًا الدرويش من أن الشاب ينتمي إلى بيت رشيد عازم، أحد أكثر الرجال نفوذًا في دمشق. عند سماع هذا الاسم، توقف الدرويش عن ضرب ضحيته، لكنه لم يُخفِ امتعاضه، قبل أن يبتعد ويواصل طريقه.
بعد وقت قصير، ظهر الدرويش مجددًا في دكان أبي حسن، الحلاق المعروف في شارع المستقيم، حيث استقبله الأخير بحذر، مدركًا أنه الشخص الذي كان ينتظره. طلب منه الدرويش رسالة كانت مخبأة في خزانة صغيرة، ثم استفسر عن الشاب الذي كان يحمل الوردة الحمراء. أجابه أبو حسن بأن هذا الشاب موسيقي مدلل من حاشية رجل يُدعى رشيد عازم، الذي يُعرف بثروته الطائلة وحبه الجامح لفتاة تُدعى «بركة القمر»، ابنة شيخ بارز من لبنان.
بمباشي باروك
عندما سأله الدرويش عن سبب تأخر زواج الرجل من محبوبته، انحنى أبو حسن هامسًا في أذنه، كاشفًا عن سر خطير قد يكون المفتاح لفك ألغاز كثيرة.
من نافذة المشربية المفتوحة، كانت «بُحيرة القمر» تتأمل الحديقة المعلقة تحتها، حيث كانت الأزهار المتألقة تحت أشعة الشمس تملأ المكان بألوان زاهية. وسط هذه الجنة، بركة صخرية تعجُّ بزنابق الماء، وتنساب فيها أسماك ذات ذيول مذهَّبة، تخترق المياه برشاقة. درجات حجرية تقود إلى كشك صغير، يجاوره جدار عالٍ مكسوٌّ بالكروم، يحمي الحديقة من الرياح الباردة القادمة من جبال لبنان. في شجرة الجوز القريبة، كانت الحمائم تتناجى في وئام. هذه الحديقة كانت مملكة ياسمينة، المعروفة بلقب «بُحيرة القمر».
لكن هذه العزلة لم تكن يسيرة عليها، فقد بدت محتومة حتى أرسلها والدها، إسماعيل الدين، إلى المدرسة الفرنسية في بيروت لمدة عامين، رغم عدم اقتناعه بذلك، تحقيقًا لوصية والدتها الراحلة. هناك، انفتحت أمامها آفاق جديدة؛ ما جعلها تقبل مصيرها المحتوم، لكنها لم تستطع أن ترحب به. فعلى الرغم من بلوغها السابعة عشرة، السن الذي يُعدُّ نضوجًا كاملًا في الشرق، ظلت تتهرَّب من الزواج، مدركةً أنه لا مفر منه. كان رشيد عازم، الرجل الذي وُعدت له، يجد دومًا السبل ليراها، وكانت نظراته المشبوبة تعكس شوقًا لا يُقاوم. لكنها لم تبادله المشاعر ذاتها.
كانت «بُحيرة القمر» تتسم ببشرة ناعمة كورد دمشق، وبشرتها البيضاء نقية كبتلات الزهر. قوامها رشيق كتماثيل إيزيس المصرية، وعيناها الداكنتان، رغم رقتهما، كانتا تكتنزان مزيجًا من الغموض والحدَّة. في الكشك الصغير بالحديقة، كانت تمارس فنَّها، تنحت لوحات خشبية دقيقة، تُطعِّم بالعاج واليشم واللؤلؤ واللازورد، وترسم تصاميمها أولًا بألوان الماء، كما علمتها الأخت فيليس. كانت موهوبة بحق، جمعت بين الجمال والرومانسية التي ورثتها عن والدتها، والعقل العملي الذي استمدَّته من والدها.
غير أن ياسمينة كانت تخبئ أحلامًا سرِّية. ففي إحدى المرات، بينما كانت في بيروت داخل الحافلة المدرسية العتيقة، رأت شابًا بزيٍّ عسكري أنيق، يرفع نظره إليها.
كان يعتمر طربوشه بأسلوب لا يُضاهى، ولما التقت أعينهما، شعرت بوهج يتسلل إلى وجنتيها. كان صاحب عينين زرقاوين تحملان نظرة إعجاب واضحة، ولما رآها مرتبكة، ابتسم بهدوء ورفع يده بالتحية، ثم مضى. افترضت أنه فرنسي، لكنها عندما لم تستطع نسيانه، بحثت عنه بلباقة، وعلمت أنه ضابط بريطاني في بعثة عسكرية. ومنذ ذلك الحين، صار هذا اللقاء ذكرى نسجت خيوطها في نسيج حياتها. لو أنها وُلدت أوروبية!
ورغم هذه الأحلام، ظلت ياسمينة تنتمي إلى الشرق. كانت تحب ارتداء الأثواب المطرزة بالألوان الزاهية، والأحزمة المتداخلة بعناية، وتحلية ذراعيها وأصابعها بالجواهر، ثم التطلع إلى انعكاسها في المرآة. أحيانًا، كانت تشعر أنها تتزين لحبيب من عالم الخيال، وليس للرجل الذي سيصبح زوجها. وعندها يغمرها الحزن، فتخلع زينتها، وترتدي ثوب العمل، متجهة إلى ورشتها في الكشك، حيث تغرق في إبداع لوحاتها الرائعة.
عند نافذتها، وهي تراقب الحديقة، عادت أفكارها إلى رشيد عازم، ذلك الرجل الذي لم تحبُّه يومًا، والذي تحوَّل نفورها منه مؤخرًا إلى كراهية صريحة. كان زواجها منه أمرًا ترعبها مجرد فكرة التفكير فيه. صحيح أنه لم يكن قبيحًا، كما أنه يتمتع بمقام رفيع، حيث يملك منزلًا فخمًا قرب دمشق، وأراضي شاسعة في سوريا والعراق، وكان رجلًا عصريًا في أعماله، لكنه في منزله، كما قيل لها، يحافظ على التقاليد الشرقية الصارمة. وكانت ياسمينة متيقنة بأنها لن تكون السيدة الوحيدة في بيته.
متنهِّدة، أغلقت النافذة، وتقدمت نحو خزانة خشبية عتيقة محفورة، تفتحها لتجد صفًا من الأثواب المعلقة بعناية. لكن لم يكن هذا ما تبحث عنه، بل التقطت رداء العمل البسيط، وارتدته، ثم خرجت إلى الشرفة الخشبية، ونزلت الدرج المؤدي إلى الحديقة. مرَّت بالبركة حيث تراقصت الأسماك في المياه الصافية، وعبرت نحو الكشك، حيث أغلقت الباب خلفها، وغرقت في عملها، المكان الوحيد الذي كانت تجد فيه بعض السلام.
بئر النخيل السبعة كان يقع على بُعد نصف ميل من أقرب طريق، وسط حقول شاسعة من الخشخاش، يحتضن ضريحًا لوليٍّ مسلم، قبة متشققة ومصبوغة بلمسات الزمن، تشع تحت ضوء القمر كبيضة عملاقة فوق مفرش قرمزي. في بستان قريب، تفجَّر ينبوع ماء صافٍ، وعلى تلة بعيدة، كانت تمتد ملكية واسعة مسورة، يعلوها مبنى قديم العهد، يشرف على البلدة الصغيرة «القصر». كانت البلدة وأراضٍ خصبة تمتد لأميال حولها ملكًا للشيخ إسماعيل الدين.
بمباشي وياسمينة
أما بيمباشي باروك، الذي كان قادرًا على التسلل بخفة ابن عرس، وامتلك سمعًا مرهفًا كالثعلب الصحراوي، فقد كان مستلقيًا عند البئر منذ مغيب الشمس. كان رداؤه الزاهي وعمامته الخضراء الداكنة ينسجمان مع سجادة الزهور المحيطة به. من الجبال اللبنانية، هبَّت ريح عاصفة، فأرهفه السمع إلى تذمَّر جماعة تجمعت حديثًا بين ظلال النخيل.
«أنا متجمد حتى نخاع العظم»، قال الحمال بصوت نحيل مرتجف. «سأمرض بشدة، ولا أظن أن هذا الفقير المجرم له صلة بالأمر».
«لكنني أؤكد لك، أيها الكيس المترهل، أنني رأيته مع النوبية»، ردَّ الشاعر بصوت حاد. «لقد أفلت مني حين كنت أداوي جراحي، لكني واثق من أنه سيأتي هذه الليلة. يجب أن يقتنع سيدنا رشيد عازم بأن تلك المرأة فاسقة».
تدخل صوت ثالث، بارد النبرة، رصين الوضوح، فخمَّن باروك أنه كاتب أو سكرتير: «وإلا، أحمد، ستضطر إلى كسب قوتك بعرق جبينك. أي امرأة راقية وحساسة لن تحتملك في بيتها».
جاء ردُّ الشاعر بهمس غاضب، وصمتت الجماعة للحظات طويلة. ثم قال الحمال بصوت مرتعش: «لا أفهم لماذا لم نقبض على تلك العجوز التي تحمل رسائل الحب. لعلها تكشف لنا هوية المرسل، طالما أن الرجال يرفضون البوح».
ردَّ باروك بنبرة حذرة: «بما أنها تأتي من جهة دار إسماعيل الدين، فقد تكشف لنا أيضًا ما الذي ينتظرنا في سجن القصر. لا، لا ينبغي المساس بها».
«لكن يمكن مراقبتها، سيدي».
«ومن يستطيع تتبعها في حقل مزروع بالخشخاش تحت ضوء القمر الساطع؟».
«أنا أستطيع»، همس باروك في نفسه، «بل سأفعل ذلك الآن».
ساد الصمت إلا من صوت أسنان الحمال التي اصطكت بردًا. في تلك اللحظة، لمح باروك شبحًا يتحرك بين الأزهار. كانت امرأة متشحة بالسواد، تسير متوجسة، تلتفت خلفها بين حين وآخر، كأنما تخشى خطرًا قادمًا من القصر وليس من البئر. وحين بلغت الضريح العتيق، جلست على مقعد حجري قرب بابه المتشابك مع أغصان متسلقة مزهرة. غمر السكون كل شيء، فيما فاحت رائحة زهور ليلية بين الخشخاش.
ظلَّت المرأة جاثمة كظلٍّ في الظلام، قبل أن تنهض أخيرًا وتعود أدراجها، بالخطى المترددة نفسها، لكن بنظرات مرتابة ألقتها هذه المرة نحو البئر.
عبرت الممرات المتعرجة حتى وصلت إلى باب خشبي في سور عالٍ، أدخلت المفتاح في القفل، لكن قبل أن تدفع الباب، ظهر أمامها طيف باهت.
«هناك أربعة عشر سببًا»، جاء صوت منخفض بنبرة إنجليزية واضحة، «تجعلني أدخل معك».
في ضوء المصابيح الخافتة، بدا المرسم في الكُشك عالمًا غامضًا بديعًا. على حامل خشبي، استندت لوحة مائية رقيقة تصور زهورًا، بينما تكدست قطع من تطعيمات خشبية دقيقة على طاولة واسعة، إلى جانب مناشير صغيرة وأدوات نحت، وصوانٍ نحاسية تحمل شذرات من اليشم واللازورد وأحجار شبه كريمة أخرى. كانت هناك مكتبة عامرة بمجلدات، بعضها مخطوطات عربية نادرة، حُفِظت بعناية. أدرك باروك أن صاحبة المكان تعشق الخط العربي القديم، ذاك الفن المهيب، وكانت تمتلك بعض أروع نماذجه.
بعد أن أغلقت الباب، ألقت المرأة عنها العباءة السوداء، فكشفت عن وجه شاحب وعينين عميقتين وبدلة بيضاء فضفاضة. تأملته بثبات، ثم قالت بإتقان إنجليزي: «من فضلك، أخبرني من أنت؟ لقد أرعبتني بشدة».
كان بيمباشي باروك يحدق فيها مذهولًا.
«بالطبع، لا يمكن أن أتوقع أن تتعرفي عليَّ، أو حتى أن تتذكريني».
لكن قلب ياسمينة بدأ ينبض كطائر مذعور. «أنا لم أنسَك أبدًا منذ أن رأيتك ذات يوم في حافلة قديمة في بيروت».
ابتسم، ثم نقر بكعبيه ورفع يده إلى عمامته الخضراء في تحية مهيبة.
في اليوم التالي، تلقَّى العقيد رودين-باين مكالمة من خط خاص في حيفا:
«هل هذا الميجور باروك؟».
«باروك هنا، سيدي. هناك رجل يدعى رشيد عازم، هل تعرفه؟».
«بالطبع، رجل أعمال شهير، له مصالح واسعة. ميوله نازية، لكن ليس هناك شيء مؤكَّد ضده. لماذا؟».
«سيزور الإسكندرية الأسبوع القادم».
«وما الأمر؟».
«اجعل إقامته هناك ممتعة... وطويلة قدر الإمكان».
«لماذا؟».
«لأنه الرجل الذي تعرفونه باسم «Z».
«ماذا!».
«حقيقة مؤكدة. اختلقوا له أي تهمة، لكن احتجزوه. المصدر العميل A14».
سادت لحظة صمت على الطرف الآخر. كانت محاولات رودين-باين المستمرة لكشف هوية هذا العميل المجهول قد باءت دائمًا بالفشل. والآن، جاءه الجواب، لكنه لم يكن متوقعًا أبدًا.
«هل التقيت بالعميل A14؟».
«نعم».
«شخصيًا؟». كان العقيد يحاول إخفاء صدمته.
«هل حصلت على التقرير المفقود؟».
«نعم. وكان مختصرًا: أمسكوا برشيد عازم».
«وما حال... العميل A14؟ هل هو بخير؟».
تنحنح العقيد رودين-باين، محاولًا إخفاء انفعاله.
«أوافقك الرأي تمامًا. عد فورًا إلى المقر».
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.