لست هنا لمناقشه عوامل قيام الحضارات وسقوطها، فذلك ما تناوله ابن خلدون وشبنجلر وتوينبي، وأين انا منهم، وانما حديثي هنا عن مقياس الحضارة، او كيف نحكم ان المدينة (س) او الدولة (ص) لهما حضارة، او بالأحرى ما هو الميزان الذي يمكن ان توزن به حضارة دوله ما او مدينه ما، هل العمران والمخترعات، وانتشار المقاهي والمولات الفاخرة، وتوفر السيارات الحديثة، وتنوع الفنون، هي مدلول الحضارة، ودليل على وجودها، هل المقياس هو توفر القوه الصناعية والمباني العالية، ام هي اشياء أخرى، قديما قالوا ان التجارة من أسباب قيام الحضارة، لأنها تعني الاطلاع على ثقافات متنوعه، وسببا للأخذ من هنا وهناك، فينتج عن ذلك نمو الحضارة، وتنوع النسيج المجتمعي، لكن الامر المقصود هنا ليس هذا، انما المقصود هو تحديد المقياس الذي تقاس به الحضارة.
هل المقياس هو النظافة، وقد قيل: ان أردت ان تحكم على مدى حضارة شعب ما، فعليك ان تزور الحمامات العامة عندهم، فنظافتها وجمالها المستمر، دليل عن تحضر هذا المجتمع. ولكن لنفرض مثلا ان مجتمع ما، يتمتع بانتشار المباني العالية والفاخرة، تنوع العلوم والمخترعات، وامتداد المقاهي والمولات الكبيرة، ويتمتع بانتشار الأضواء في الشوارع الممتدة والمسفلتة، أي كل ما يمكن ان نسميه بالعمران البشري المادي، ولكن بالمقابل نجد ان هذا المجتمع مع كل ما فيه من مظاهر التقدم، يعاني من انعدام العمران البشري الإنساني، او لنقل المعنوي، من التناصح والأخوة، والشعور بالأخرين، والعلاقان الأسرية القوية، وعلاقات القرابة المتينة، وسطوة المادية على الحياة. ومجتمع آخر يتمتع بكل وسائل الرفاهية والتكنولوجيا والبناء والصناعة، لكن ابناء هذا المجتمع لا يحترمون قانون المرور مثلا، وعند وقوع المشادات والمشاكل بينهم، قليلا ما يلجؤون للقانون، ويلتجؤون الى السلاح، سواء الأبيض او الاحمر او حتى بالأيدي، ويصفون سياراتهم الفاخرة في الطرقات، او يغلقون بها الرصيف امام المولات والمحلات والمؤسسات، و المحلات عندهم تتخذ من الأرصفة المخصصة للمشاة، مكانا لعرض بضاعتها، الجامعات عندهم مزدحمة بالطلاب، لكن الكتاب سوقه كاسدة، والثقافة سوقها نائمة، هل يمكن ان نقول ان هذا المجتمع الذي من اوصافه ما ذكرت، هو مجتمع متحضر!!.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
تسجيل دخول إنشاء حساب جديد