أحمد مراد كاتب مُولَع بالتجسيم والتشخيص، وصوره غريبة عجيبة منعشة طريفة، وهو يظلُّ يحتال بشتّى الطرُق ليجذبك حتى يُسِفَّ إسفافًا ظاهرًا، ومما لاحظتُه أنه يستعمل دائمًا الفعل "دَلَفَ، يَدلِف" -مثل صنع الله إبراهيم- بمعنى "دخل"، وهذا خطأ، وصوابه أن دلف معناها: مَشَى متمهِّلًا.
اقرأ أيضاً رواية "الفيل الأزرق" للكاتب أحمد مراد.. روايات رعب بعض اقتباساتها
كتاب حلب الكميت
وقال في الفيل الأزرق (صـ181): "طبقًا لكتاب «حَلب الكَميت»، المرجع الأقدم للخمور، جاءت تلك الفقرة وصفًا لمراحل الشُّرب".
والكتاب اسمه "حَلْبة الكميت"، وكلمة "الكُميت" تُنطَق بضمّ الكاف لا بفتحها، وهذا الكتاب ليس أقدم مرجع للخمور، وإنما هو كتاب أدب، وهمُّ مؤلفه عرض الأخبار الطريفة الفكاهيّة والنوادر المستظرَفة في الخمر وشاربيها ومجلسها والندامى والمدمنين عليها، وما قيل فيها نثرًا،وأشعار الشعراء في وصفها، ومدى إبداع كل شاعر في صفة ابنة الكَرْم.. وقد سُبِقَ هذا الكتاب.
ونقل صاحبه من مصادر أشار إليها في تضاعيفه، ومؤلف الكتاب هو شمس الدين محمد بن الحسني النواجي (المتوفَّى 859 هـ) من أهل القرن التاسع الهجريّ، فهو متأخِّر.
أخذ من كتب الجاحظ (وبالمناسبة رسالة الجاحظ -الذي عاش في القرن الثاني والثالث الهجريَّيْنِ- في مدح النبيذ ورسالته في ذمّ النبيذ من أقدم المؤلفات في هذا المجال)، وكتاب ترويح الأرواح لجراب الدولة، وكتاب قطب السرور للقيروانيّ، وكتاب الأغاني للأصفهاني... إلخ.
اقرأ أيضاً تراب الماس... حين يكون اجتزاز أهم أجزاء الرواية عرضاً جانبياً
المرجع الأقدم للخمور
ومن الأمثلة على عدم الدقة في التعبير، أو عدم الاهتمام بالمراجعة، قوله في تراب الماس (ص107): "راحة مزمنة أصابتها منذ عشَّشَ النسرُ بجانب النجوم فوق كتف زوجها"، مع أن وليد سلطان كان مقدّم شرطة، أي أن ما فوق كتفه نسرٌ ونجمة واحدة.
وقال (ص187): "دقيقة ودخلت القهوة ثم صفّ ضابط يحمل بعض الملفَّات"، صف ضابط في قسم الدقي؟
وأحمد مراد يُخطئ في النَّحو، ولم يقع ذلك من السَّهْو، فيُعجم ويَحسَب أنه يُعرِب، ويَرفع وكان الواجب عليه أن يَنصِب، وضبطُهُ بِنَى بعض الكلمات عجيب، واستعماله علامات الترقيم مُريب.
اقرأ أيضاً أحمد مراد للمبتدئين.. كل ما تريد معرفته عنه منذ بداية حياته ومسيرته المهنية
أخطاء في رواية تراب الماس
ومِن أخطائه التي وقعت في تراب الماس قوله (ص84): "بوابة هائلة من الحديد المشغول، مطعمة بزجاج أخفَى ما وراءها، يحيطها كشَّافَينِ على شكل أيدي نُحاسيَّة ... مثبتان في سُور أبيض عالي من الحجر"، وفيه 3 أخطاء، وقوله (ص89): "لا بد القعيد آتٍ في طلب"، وفيه ركاكة أيضًا، وقوله (ص136): "الأبوانِ يعملانِ في الكويت، ويعودا في إجازة سنويّة".
(ص139): "بمرور الأيام لم يتبقَّ إلا شيءٌ في عينيها، كان كافٍ لجعلها حاضرة"، و(ص140): "تريد أن تكون مُلفتة دون أن يلتفَّ الذبابُ حولَها... يلتقط كتابًا من مكتبة والده، ينفض عنه التراب ويجلس فوق الكنبة المتهالكة لِيُطالعَ تاريخ لم يعِشهُ"، وفيه خطآنِ.
(ص147): "بصعوبةٍ استخرج كيسًا منتفخًا كمنطاد.. جرجره كعامل نظافة مجتهد إلى غرفة أبيه.. جلس على الأرض حتى انقطع الإحساس عن قدميه.. أبيه كان يحتفظ بكل شيء"، وفي هامش صفحة 155 علَّق على قول الخواجة اليهوديّ لييتو لحسين الزَّهَّار: «شيء لله يا يوشَع» فقال: "قَسَمٌ يُنسَبُ إلى يوشع بن نون من قبيلة إفرايم"، فهل يعلم أحمد مراد معنى كلمة "قَسَم"؟
وقال (ص159): "لِمَ يتنفَّسُ نسيمَ تلك البلد ويمشي على أرضها؟"، و(ص160): "مكتب فخم وطاقم من المساعدين قد يُخرِجوا إبليسَ مِن جهنم... هل أصبحنا عُميان؟".
و(ص161): "فالقتل قد يصبح أثرًا جانبيًّا لدواءٍ يَشفي بلد يُحتَضَر"، و(ص178): "بالداخل كانت الإضاءة خافتة.. عدة كشَّافات لا تغني من ظُلمة لكنها قادرة على إذابة الفوارق بين كل شيء.. الألوان.. الأصوات.. وحتى الأشخاص.. كراسي جلدية عالية تحيط البار في نصف دائرة.. شبابًا وفتيات متناثِرينَ في الأرجاء".
و(ص178): "اتخذ الأمرُ منه ثوانٍ ليتأكَّد"، و(ص206): "وينتعل حِذاءًا رياضيًّا أحمر"، و(ص222): "اختار عقلُه إيقاعًا ثقيل من الـ«Rock»".
و(ص238): "لم يَثنيه سوى حَشْرَجةٍ ألمَّتْ بصوته فبصق دماءً ثم اختفى"، و(ص247): "فَتَحَ عينيه فلم تُسعِفهُ حَدَقَتَيهِ على تبيُّن التفاصيل"، و(ص288): "مسَحَ عَرَقَهُ ووقف قِبالة الشبّاك"، و(ص297): "بالأسفل كانا اثنين"، و(ص321): "زاده قَرعُ الطبولِ جنون".. وسأكتفي بهذا القدر.
وفي الرواية أخطاء كثيرة جدًّا، وبعضها يتكرر على طول الرواية، ما ينفي عن الكاتب أن يتعلل بالسَّهْو، فتغافلتُ عنها، وإلا طال عَنائي عبثًا.
اقرأ أيضاً القتل للمبتدئين.. كتاب شيق أم خريطة أحمد مراد لإرشاء للمبتدئين؟
أخطاء في رواية الفيل الأزرق
ومِن أخطائه التي وردَتْ في الفيل الأزرق ولا أجد وقتًا لتصحيحها قوله (ص190): "استللتُ عصاة الممسحة"، و(ص303): "ساد الخيمة صمتُ الجنائز وعَلَتِ الوجوهَ دهشةٌ كدهشة السَّحَرة لمّا رأوا عصاة موسى ثُعبانًا"، ويقال إن أول خطإ سُمِع في العراق هو: هذه عصاتي. و(ص205): "وقوفي تحت البروج المُشيَّدة كان مُقبضًا"، و(ص242): "لم يكن خداع بصر ولا تخاريف نيون يَحتضر".
و(ص252): "ستكتفي بتحذيري من خلف نظَّارتها قبل أن تُوصيَني بالنوم لمَّا تلحظ السواد الكامن تحت عينيَّ"، و(ص253): "اللعين يبحث عن ثأر لن يناله ما حَيَا"، و(ص258): "سَرَتْ قَشعريرة في جلدي لمَّا تذكّرتُ وجودَه بجانب الشجرة في بيتي"، و(ص266): "لا شيء يُبهرني".
و(ص276): "تذكرت مايا على الأرض مسجية والدماء تتدفق من تحتها"، و(ص276): "انغمدتُّ في حضنها"، و(ص299): "ساقاها لم تَعُدا مستريحتان"، وهما خطآنِ، و(ص301): "أحنَتْ رأسَها إذعانًا لرغبتي"، و(ص317): "المارَّة كانوا يتأمَّلونني بدهشةٍ فرفعتُ يدي أمام وجهي وأسرعتُ أتسنّد سُورًا ضخمًا لا ينتهي والدُّوار والغثيان يَنهشاني".
و(ص325): "الأطفال حليقو الرءوس يتقدمونا مُدارين همساتهم بكفوفهم القذرة"، و(ص345): "أغلقتُ الباب وربَّتُّ على يديها وطلبتُ منها تطميني حين تصل"، و(ص231): "ميَّزتُ أرجُل دقيقةً تخرج من جسم بغيض"، و(ص234): "التقويم في تليفوني المحمول وعدد المكالمات الفائتة كان يُشير ليوم كامل بُتِرَ من حياتي، أربعة وعشرون ساعةً سَقَطَتْ سَهوًا".
هل رواية تراب الماس أفضل روايات أحمد مراد؟
ولا شكَّ عندي أن رواية تراب الماس أفضل مما كُتِبَ قبلها، وممّا كُتِبَ بعدها أيضًا.. وقد جُمِّعَت فيها مواضيع شتَّى ونظريات كثيرة وانتقادات جريئة مُؤثِّرة في حياتنا: تاريخنا، وعلاقتنا باليهود، ونتائج ثورة 52، ووظيفة القانون، وجناية الوساطة على الفقراء والمهمَّشين، وغياب العدل.
وهل يصلح العنف وسيلةً للقضاء على الفساد؟ وظاهرة الباعة الذين يعرضون أشياءهم على الطريق، ومَن هو مندوب المبيعات؟ وأشهر الأدوية الموجودة بالصيدليات، وعلاقة السياسة بالفنِّ، وطبقات المجتمع المصريّ، والبلطجة، والانتخابات، وماذا يفعل ضباط الشرطة؟ والحبّ والشهوة، والضعف البشريّ، ووَلَع البعض بالماركات والتريندات والبِرِنْدات، وجولة في محافظة الجيزة، واللواط، وحِيل المُجرمين... إلخ.
إلا أن المؤلف كان يدسُّ في الرواية ما لا يؤثِّر في الحبكة، والحبكة هي التسلسل المنطقيّ لأحداث القصة، بحيث يُبنَى الحدث على ما قبله، ويؤدي الأوَّلُ إلى الآخِرِ، من باب الضرورة أو الاحتمال.. فمن ذلك الفصلُ الثاني من رواية تراب الماس.
فإنَّنا إذا حذفناه كلَّه لم يتأثر العمل الأدبيّ ولو تأثُّرًا ضعيفًا.. ولا يعني هذا أني أنكر أن الفصل الثاني هذا لوحةٌ بديعة تتضافر فيه الألوان والأنوار والظلال، ومشهد حيّ تتحرك فيه الأشباح والأرواح، ولكنني استنكرتُ انفصالها عمَّا يُحيط بها، وعَدَدتُها رقعةً وُضِعت على ثوب جديد لم يتمزَّق منه شيء.
هل رواية الفيل الأزرق رواية ممطوطة؟
أمَّا الفيل الأزرق فهي رواية ممطوطة، لو اختُصِرتْ لدُفِنَتْ، والمؤلف أطال في الوصف حتى أمَلَّ، وأتى بمشاهد احتال في ربطها -ولو بخيط دقيق جدًّا- بالرواية كَكُلّ، كأنه يواجه بذلك مَن سيدَّعي انفصام عُرَى الرواية، ودخولها في أمكنةٍ وخروجها منها دون داعٍ حقيقيّ.. ولم يُحاول.
ولعله لم يخطر في باله، أن ينصر علم النفس على الدَّجَل والجهالات، بل إنه قد جعل يحيى الطبيب النفسانيّ يُصدِّق الصَّرْع ودخول الجنّ في بني آدم.. أمَّا مادة الرواية وأسُّها الذي قامت عليه فهو شيء ضئيل تافه، لم يُكلِّف الجَبَرتي -رحمه الله- نفسَهُ الحديث عنه بشيء من التفصيل.
ونهاية الخبر تدلُّ على أن المأمون كان رجلًا مجنونًا، أيْ مختلَّ العقل، ولذلك وضعوه في مستشفى المجانين، ولم يكن علم النفس قد تطوَّر هذا التطور الكبير، ولمَّا يكن التحليل النفسيّ قد ظهر وطفَرَ طفرته الكبرى.
بغضّ النظر عمّا في علم النفس وتحليلها مِن خرافات مُضلِّلة ونظريَّات سخيفة وأحكام باطلة، كما أن الجبرتي كان يحكي ولا يستقصي ولا يستثبت ولا ينقد الخبر، وإنما يكتب الخبر على عِلَّاته، ثقةً بعقل القارئ وفطنته وقدرته على التمييز بين الحقيقة والخرافة..
ويجوز أن يقال إن المأمون كان مُصابًا بمرض نفسي خطير، فادَّعى على زوجته، وادَّعى أنها ولدت جنينًا يُشبه خلقة الكلب، وجهه وجه كلب، وأذناه أذنا كلب، وله نابان خارجان من فمه.
الخنفساء في رواية الفيل الأزرق
أما مشهد الخنفساء والخنافس في رواية الفيل الأزرق (ص232) فهو مشهد سَمْجٌ جدًّا، أكلما عَنَّ لك شيءٌ حَشَوتَ به روايتك؟ أكلما سمعتَ كُلَيمة حدَّثتَ غيرَك بها؟ أكلما رأيتَ في النوم حُلمًا دوَّنتَه بعُجَره وبُجَره؟ أين الإبداع في هذا؟ لقد هلك سيجموند فرويد، وانتُقد كتابه عن تفسير الأحلام.
ومات زمان نجيب محفوظ، وماتت أحلام فترة النقاهة، ومات مصطفى محمود، وانقشعت غمامة السوريالية البغيضة، ولا يزال أحمد مراد متعلِّقًا بما مات، يحاول إحياءه، وهيهات!
بل إن أحمد مراد ليُشجّع الناشئين على تدوين أحلامهم، فليكتبوها، لا بأسَ، وليحتفظوا بها، فإن أرادوا توظيفها في عمل أدبيّ، فليعالجوها معالجة تضع عقل القارئ أمام أعينهم.
وبَلَغَني أن المؤلِّف إذا أراد أن يُدير حوارًا تخيَّله ودوَّنه وأخذ يُردِّدُه وهو جالس في الغرفة وحده، حتى يتأكد أنه ملائم يناسب قائله، فلو صحَّ هذا لما سمعنا المقدّم وليد يقول لبُشرى القوَّادة في أثناء حديثه معها: "بُشرى .. مِن غير زَعَل أنتِ في الآخِر عاهرة".
كيف دسَّ كلمة "عاهرة" في معجم وليد؟ ما أثقلها من كلمة! لِمَ لم يقل: مُومس، أو قحبة، أو شِمال، ألا إنه لَضابط محترم فصيح! والدليل على أن وليد سلطان فصيح وأنه كان الأول في مادة اللغة العربية قوله لبشرى في الصفحة نفسها (ص303): "خبر في جرنال عن موتك مش هياخُد أكتر من خمس أسطر".
البحر في رواية الفيل الأزرق
ولا بد أن يُنظَر في ذلك المشهد الذي تظاهر فيه طه أنه أعسَر أمام رئيس المباحث، فالمسألة ليست بهذه السهولة، ولا ينبغي لها أن تكون، ولا يكون ذلك سهلًا إلا على الأضبط، وهو الذي يستعمل كلتا يديه..
كما أن الحديث عن زيت الفرامل "الباكِم" DOT 3 وإزالته طلاء السيارة يحتاج إلى تأنٍّ ومراجعة، فإن التلَفَ الذي يُحدِثه هذا الزيت يأخذ وقتًا طويلًا، وأنا وضعتُ هذا الزيت على ظهر هاتفي المحمول عدة ساعاتٍ فلم يقشر طبقة الطلاء، ولم يَمَّحِ لونه !
أما "بحر" فهو في رواية الفيل الأزرق: بَغلٌ ضخم أطول من الحصان، لون شعره بُنِّيّ يَزرقُّ إذا انسكب ضوء الشمس عليه، كان مربوطًا أمام دار المأمون، الرجل الذي عاش في نهاية عصر المماليك، وقد رُسِمَ وَشمٌ على فَخِذ امرأته ليرغب فيها.
ثم إنها ذبحت خادمتها وخيّاطًا وأسقطت جنينًا غريب الخِلقة قبيح المنظر.. وقد زعم نائل أنه تاجر بِغال، ويبدو أن البغل واسمه وصفته لم تُضف إلى الرواية شيئًا، وأنا كنتُ أظنُّ أن الكاتب سيُوظّف ما ذُكِر في تراثنا القديم، فقد رُوي أنه كان للنبيّ ﷺ فرسٌ اسمه بحر.
وإنما سُمّي بهذا الاسم لأن جريانه كان يتتابع، وحركاته تستمر ولا تنقطع، فكأنه أمواج بحر تتقدَّم، ولو نظر أحمد مراد في رسالة الجاحظ عن البِغال لظَفِرَ بشيء يقوله، ولَمَنح القارئ عِلْمًا يُفيده.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.