لم يدرِ الإنسان أين يواري جثمان الذاكرة، فابتكر القصائد والقصص والروايات، ليجعل منها قبورًا فاخرة للكلمات، يخفي فيها ما عجز عن نسيانه، ويدفن ما توارى عن الإدراك في زوايا العقل والقلب، لكنه وهو يحفر هذه المقابر الأدبية، وقع في كمينها، إذ لم تكن مجرد مدافن، بل صارت مرايا عاكسة لذاته، كهوفًا تتردد فيها أصداء أحلامه المنسية، ومواجعه المؤجلة، وحنينه الذي لا يعرف الفناء.
الإنسان بطبعه يخاف النسيان كما يخاف التذكر. فكل لحظة عاشها تظل محفورة في داخله، تنبض في ذاكرته مثل جرح لا يندمل، لكنه في سعيه للوصول إلى مهرب، وقع في شرك الكلمات، إذ سرعان ما تحولت تلك المدافن إلى مدن نابضة بالحياة، تقاوم الزمن بسطور لا تموت.
كل قصة كتبها لم تكن طيِّ النسيان، بل نافذة تعيد فتح الماضي وتبعثه حيًّا من جديد. وكل قصيدة خطَّها كانت مرثية لما ظن أنه انتهى، فإذا بها توقظ ما حسبه نائمًا في أعماقه.
الكلمات ليست مجرد حروف تُرصَّف، بل جراحٌ مفتوحة تنزف بصمت، أو نجومٌ تتلألأ في ظلام الروح، تمنح القلب طريقًا لمواساة نفسه حين يخذله العالم. هي امتداد الروح حين تضيق بها المسافات، وتيه المشاعر حين تعجز الألسن عن البوح. عندما تنبع من الوجدان، تصبح قدرًا لا مفر منه، سحرًا يأسر القارئ وكأنها وُلدت من ضوء القمر وانسكبت على الورق.
كل حرف يسقط يشبه قطرة مطر تحفر أخاديدها في صخور القلب، كل كلمة تتجلى كأنها شمعة تضيء عتمة الذكريات، وكل جملة تُكتب تصبح نبضًا يرفض أن يموت. الإنسان يكتب ليطفئ حرائق داخله، لكنه يكتشف أن الكتابة ليست ماءً، بل مزيد من الشرر يوقظ ما حسبه رمادًا منطفئًا. يكتب ليهرب، فيجد نفسه محاصرًا بحروفه، يظن أنه يخفي أسراره، لكنه في الحقيقة يُعرِّي روحه أمام الزمن، ويمنح ذاكرته عمرًا جديدًا لا ينتهي بانتهاء الجسد.
وهكذا، أصبحت الكتابة فخًّا أنيقًا، سرابًا يظنه نجاته، فيغرق في تفاصيله، يناديه الحرف فيرتد إليه الحنين، تطارده القصيدة فلا يجد مفرًا منها إلا إليها. ينسكب بين السطور، يسكنها وتسكنه، حتى يصبح هو الكلمة، وتصبح الكلمة ذاكرة لا تُمحى، حلمًا لا يشيخ، وجرحًا لا يندمل.
رائعة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.