مقامة "حلاج الرجل المزواج".. مقامات أدبية

حدثنا موسى بن هشام أن حلاج بن نبيل رجل تجاوز عقده السادس بقليل، طويل القامة، مرفوع الهامة، نحيف البنية، مرتب اللحية، ملبسه أنيق، وحديثه شيق، كلما حل في مجلس أشاع فيه المرح والحبور، وسادته البهجة والسرور.

سرعان ما يستحوذ على الكلام، وبعد السلام، يسترسل في رواية مغامراته وبطولاته، وسرد تجاربه وخبراته لا سيما في عالم النساء، فهو الذي خبر طباعهن، وكشف أسرارهن، تجده يصور نفسه كفارس مغوار، لا يُشق له غبار، إذا غضب يزمجر ويثور.

ويثير انتباه الحضور بتمطيط الحروف، وتعابير وجهه المألوف، لا يهدأ حتى يُجبر خاطره فورًا دون تأجيل، وتُلبَّى طلباته بلا تلكؤ أو تعطيل، موصيًا بالحزم والصمود «حتى لا يركبْن ظهرك، وتغدو كالغبي يُسيِّرن أمرك».

يروى عنه أنه رومانسي من طراز فريد، ينجذب بمقدار، ويرى الحب حرفة الشطار، يجود بالغرام حسب المقام، وبداهة المرأة التي تراعي طبع الرجل الهمام، وهو القائل ذات يوم: «في الحياة الزوجية اعمل بالقاعدة الذهبية الآتية: لا تظهر ضعفك أمام أنثى، ولا تستقو عليها حتى، اعدل وشد الحزام، وانهض باكرًا على الدوام، كن على استعداد للسعي سائر الأيام، ليتأتّى لك الأخذ بالزمام، وليكن قولك مسموعًا، وطعامك جاهزًا على المائدة موضوعًا، وتهنّى بلبوس الرجل النحرير، وواصل المسير، في مسار الزواج الطويل».

هذا هو حلاج الرجل المزواج، يحكى عنه أن زيجاته الخمس باءت جميعها بالفشل، وإن ذهبت لتسأل عن السبب فلا مجيب، هو الوحيد العالم بحاله، والكاشف لبعض أسراره، في كل مرة يلقي باللوم على الطرف الآخر، ويندب حظه العاثر.

أولى زوجاته (رقوش) امرأة نكدية -حسب قوله- لا يعجبها العجب ولا الصوم في رجب، دائمة الشكوى، كثيرة الجفا، معها لا تفرح بنبأ سار، ولا تطرب لنغم في عرس جار، ولا تقدم عزاء لأهل الدار، ولا ترتاح في يوم عطلة كسائر الأبرار، لاتصل رحمًا، ولا تتصدق على يتيم، ولا تأكل في حضرتها لقمة دون تسميم، يقول: «صبرت عليها تسع سنين، فكان الخلاص على يد قاضي التوثيق الذي أراحني منها، حين أصدر الحكم بالتطليق».

بعد ذلك تزوج بـ (عبوش)، امرأة غريبة الأطوار، كثيرة الشجار، سرعان ما تخلع الابتسامة من وجهها، وتستشيط غضبًا يتطاير من عينيها لأتفه الأسباب حتى غدت ملتحفة على الدوام بالعبوس، جوابها في نابها، في نظرها الكل متآمر عليها، فهي ليس لها خلان، مستهدفة من الجيران، يحسدونها على جمالها، وعز حالها...

إذ أصبحت كانت مثل عود كبريت سريعة الاشتعال، مطيلةً للجدال، صعبة الاحتمال، ترفع عقيرتها مستعدة لرد الصاع صاعين، في كل وقت وحين، لا تلين ولا تستكين، «تطلقنا في الشهر الثالث من الزواج، ولولا الفراق بمعناه لحدث ما لا يحمد عقباه».

وبوساطة من فقيه القرية تزوج (الضاوية)، وهي امرأة بدوية الأصول، قبلت أول وهلة أن ترحل معه إلى الحضر، ليعيشا بما قسم الله ويسر، لكن سرعان ما انقلبت رأسًا على عقب، فأصبحت امرأة أمرها عجيب، مكلفة ترهق الجيب.

فمهما أنفق على ما لذ وطاب، تطالبه بالمزيد، فأخوها سعيد وعائلته من أهل الدوار (القرية)، فحلا لهم المقام، ومنهم من أكمل الشهر على التمام، في رحاب بيت حلاج الذي أعياه اللجاج، فراح يرفع دعوى الطلاق، عساه يتخلص من هذا المأزق بأقل الأضرار، وينجو بجلده من عشيرة التفت حوله كالسوار...

أما (تودة) امرأة غيور حد الجنون، مسيئة للظنون، حادة كالسكين، ماهرة في قلب الموازين، ابتليت بكثرة التدقيق «حتى صرت معها كمتهم في مخفر شرطة معرض للتحقيق، بداخلها بركان غيرة لا يطاق، حممه الحارة أقلقت راحتنا، وأفسدت علاقتنا، وعجلت بطلاقنا».

ويقول حلاج بن نبيل: «من بين كافة النساء (رقية) امرأة أصابني منها سهم الغرام بغثة، فسقط على قلبي كرصاصة طائشة، أردتني هائمًا، أعدُّ الخطا، إلى بيتها كغليظ قفا، فطلبت منها الزواج دون تردد، لكنها صدمتني -بعد بضعة أيام- بكسر فؤادي.

حين صرخت في وجهي بكبرياء: «أحب في ذاتي العناد، لأني لن أحني رأسي إلا لرب العباد»، حيرتني لأبعد الحدود، بسلوكات مستبدة، ولما تمادت في تصرفاتها المتمردة، ازداد بيننا الشقاق، ولم يكن لنا من بد إلا الفراق».

بقي حلاج وحيدًا دحرًا من الأزمان، فقرر المضي في رحلة عبر البلدان، ينشد اكتشاف الخلوات والأصقاع، إلى أن حل بزاوية للدراويش بهدف الاستطلاع، فأعجبه نمط عيشهم، وصفاء سريرتهم، فعزف عن الترحال، وانقطع للعبادة في كل الأحوال، بعد أن تأثر بشيخ الطريقة الصوفية، فتشبع بتعاليمه، واهتدى بهديه.

وتتبع نهج حياته في التقشف، ولبس الصوف، وتقلد السبحة ذات العقيق المصفوف، ووهب كل وقته للتكبير والتسبيح، والدعوة إلى الله رب الكون الفسيح.

وحين ركبه الحنين، رجع إلى موطنه الأمين، فقال له بعض أهله: «أرى أن أي امرأة في الدنيا لم تملأ عينك يا حلاج؟»

فأجابهم بيقين: «أخيرًا ارتقيت بحبي إلى مقام الوجد أسبح في نشوة علوية، وأخلص الحب لله عز وجل فقط».

يقول شيخي أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج:

«فلكل قلب إذا ما حب أسرار، وكل حب لغير الله ينهار»، وسئل أيضًا: أراك أصبحت متصوفًا، فاتجهت لحب الإله بعد فشلك في حب النساء؟ فنطق مجيبًا: «الحب فيض من الوجدان، وأنا بت أجاهر بحبي لله الواحد الأحد، وهذا يشبع نهمي، ويجبر سقمي».

هكذا عانق حلاج بن نبيل حبه الأبدي، وعاش بقية عمره عفيفًا أبيًا إلى أن توفاه الله تعالى.

وعزي إلى عبد المجيد بن إدريس نشأة هذه المقامة الساخرة، ولموسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يُعرف ونكرة لا تتعرف، فاقبلوا مقامتي على سبيل النكتة الطريفة، والفائدة اللطيفة، إن وجدتم فيها ما يفيد.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة