طالما كنتُ أُنبهر بالتراث الأوروبي في كل شيء، ويجذبني الانفتاح المعماري والاتساع الممتد، تلك المباني الشاهقة وناطحات السحاب العالية التي تبدو وكأنها تدنو من السماء وتلمس الدوائر الثلجية والنجوم. ما أجمل الشوارع الواسعة المتوازية التي تتقاطع مع شوارع تماثلها في القياس والكتلة! إنها براعة التصميم وروعة الأشكال، فالأحياء تظهر وكأنها لوحة شطرنج تتساوى فيها المربعات مع المساحات المستطيلة.
وأينما تذهب تصل إلى البحر، نعم، إنها الإسكندرية (البصمة الذهبية للإسكندر الأكبر). ربما كان له نهج خاص في اختيار المهندسين المعماريين، أو أنه كان المستشار المعماري الذي يعمل في فريقه. إن كل الشوارع في المدينة تؤدي بك إلى شاطئ الإسكندرية، أي إن كل الطرق تؤدي إلى روما، أو هزلًا ربما إلى رومانيا، أيًّا ما يكون، ولكنها اللمسات اليونانية وليست الرومانية، فشتان بين أصحاب الفن اليوناني وأصحاب الحرب الرومانيين، فارق شاسع بين رهافة الإحساس وصُنَّاع السلاح.
جمال الآثار اليونانية
يبقى الأثر اليوناني شاهدًا على الجمال والإبداع، فمن الصعب أن تزور عروس البحر المتوسط ولا تشم عبق الماضي أو يأخذك خيالك إلى حياة الإسكندر والبطالمة، وكيف كانت أفكارهم وأحلامهم، وما الهوايات المفضلة لديهم. بلا شك كانوا أناسًا أصحاب سحر وجمال، إذ يتضح ذلك جليًّا في التصميم المعماري والرسوم المنقوشة على الجدران في كل حي وضاحية. أينما تجولت، سواء بجوار البحر أو بعيدًا عنه، ستلحظ الروح الصافية والسعادة الغامرة التي ستسمعها ليس فقط في صوت الأمواج، بل في الأحجار والرمال.
هل يمكن بعد ذلك أن تتخيل أنك قد ترى تراثًا أكثر جمالًا من هذا؟ إذا كنت لا تعتقد أن ذلك مستحيل، فإن هذا ليس غريبًا، لأن من يرى جنة الرحمن لن يصل عقله إلى أكثر من ذلك.
خان الخليلي والجواهر النادرة
في الجولة الثانية إلى خان الخليلي، ستنتقل إلى عالم ذي طبيعة أخرى، وقد تشعر أنه الأكثر قِدمًا، ولكنه في الحقيقة أكثر عمقًا، ولم يكن عمقًا منغلقًا، بل كان مغلفًا كالجواهر النادرة، فقد انفتحت الحضارة الإسلامية على كافة الفنون اليونانية والرومانية والساسانية. إنها العمارة الإسلامية ذات التخطيط المتعرج والشوارع المتقاطعة والحارات الصغيرة التي تقطعها وتثير داخلك بعض الأسئلة: هل تعتمد على التعقيد الهندسي، أم أن ذلك كان سهوًا منهم في عدم مراعاة التساوي في القياسات والمساقط الأفقية؟ ستصاب بالدهشة عندما تعرف أن هناك دقة في رسم التعرجات والمداخل المنكسرة والممرات السرية التي تربط الشوارع، بل وممرات خفية تُصَمَّم داخل البيوت.
إنها المنازل ذات الأسقف العالية والمشربيات التي كانت بمنزلة الشبابيك في المعمار الإسلامي، ولكنها شبابيك مغلقة ذات أشكال خشبية مزخرفة بها فتحات للتهوية، فالمسألة لم تكن جمالية فقط، ولكنها إيمانية، فقد سخَّر المهندسون العمارة الإسلامية لتطبيق الشرع الإسلامي وحماية الحُرُمات داخل البيوت والعمائر المدنية من أنظار الأجانب والغرباء، وكانت المباني المدنية تراعي الأطوال المعتدلة، ولا تبتغي الضخامة والارتفاع، وكان ذلك لتخفيف حرارة الجو عن القاطنين فيها وترطيب الهواء.
عُقد هندسية
فالمسألة ليست تعقيدًا هندسيًّا، ولكنها دقة تهدف إلى مراعاة البيئة وتطهير الهواء ليكون نظيفًا صافيًا، ففي معظم البيوت الإسلامية المقامة بالمدن، كانت الحوائط الخارجية للطابق الأرضي عادةً ما تُبنى بالحجر الجيري بسمك 50 سم أو أكثر، وبسبب اللون الفاتح للحجارة، فإنها تظهر جزءًا كبيرًا من الإشعاع الشمسي الساقط عليها. والحجر الجيري مادة ذات سعة حرارية عالية، ما يجعل زمن النفاذ الحراري عن طريقه يصل إلى 15 ساعة، وهذا يعني أن الحرارة الخارجية سوف تأخذ وقتًا طويلًا لتصل إلى فراغات المبنى الداخلية؛ نظرًا لطبيعة وسمك الحجر المستخدم في بناء حوائطه.
لذلك فإن ارتفاع درجة حرارة الهواء نتيجة إشعاع الحوائط الخارجية للحرارة المخزونة بها ليلًا لن يسبب إزعاجًا، فالأدوار الأرضية في البيت الإسلامي كانت لا تُستخدم غالبًا في النوم، وعلى ذلك، فإن الفراغات الداخلية تحتفظ بهوائها البارد معظم ساعات النهار في أثناء ارتفاع درجة حرارة الهواء في الخارج، إنها البراعة المعمارية وعبقرية التخطيط والقياس.
إنه العلم والدراسة المتأنية، فحتى الفتحات بواجهات المباني كان تُوَزَّع بحسابات دقيقة، خاصة البنايات السكنية، إذ كان يتم توجيه كل واجهة وفقًا لما تتعرض له من إشعاع شمسي، وهو ما أوضحته إحدى الدراسات الحديثة، فقد اتضح من دراسة الواجهات المطلة على فِنَاء منزل جمال الدين الذهبي بالقاهرة أن أسلوب توزيع الفتحات وأماكن البروزات، خاصة في كل من الواجهتين الشرقية والجنوبية.
قد أتاح توافر كمٍّ كبير من الظلال في منتصف النهار صيفًا، حيث تأخذ الشمس أكبر ارتفاع لها في السماء، كما لوحظ أن نسبة الفتحات بالواجهة الجنوبية تمثل نحو 11.66% من إجمالي مساحة الواجهة، وأن نسبة وقوعها في الظل نتيجة للبروزات الموجودة بالواجهة قد وصلت إلى 86%.
أما في الشتاء، فإن نسبة تظليل هذه الفتحات تقل لتصبح 75%، ما يدل على أن هذه الفتحات تتمتع بكمية أكبر من الإشعاع الشمسي، وهو شيء مطلوب خلال الشتاء، وهو ما يؤكد أن توزيع الفتحات ومقدار البروزات قد تم بأسلوب يعمل على تعظيم كمَّ الظلال صيفًا وتقليله شتاءً.
المصدر: (د. يحيى وزير - العمارة الإسلامية والبيئة، ص113)
المقارنة بين الجولتين
هل يمكن بعد الجولتين أن نقارن بين المعمار الأوروبي والإسلامي؟ بالتأكيد تستطيع أن تقارن وأن تختار ما تشاء لتعجب به، ولكنك ستعرف بالتأكيد أن العمارة الإسلامية تناسبك من ناحية مراعاتها للبيئة الحارة، وكذلك لأنها تخدم العادات والبيئة، وفوق كل ذلك، فهي عمائر مدنية جميلة ومغلَّفة تشعرك بالخصوصية والاستقلال. وفي ذات الوقت، فإن الرُّسُوم والنقوش تبدو صغيرة وذات ألوان زاهية.
ولكنك، على الرغم من كل ذلك، لن تستطيع أن تزهد في العمارة اليونانية، معأنك ستتحقق أنها سهلة في رسمها وتخطيطها؛ لأنها -كما ذكر خبراء علم الآثار- تمثل لوحة شطرنج، تُخط بالقلم 10 خطوط عرضية وتقطعها 10 خطوط طولية لتحصل على شكل ضاحية كاملة.
أما المنزل فيمكنك أن ترسم مربعًا ممتدًا، وغرفتين على اليمين، وغرفتين في الجنوب، لتحصل على الشكل الأوروبي لبيتك. حقيقةً، هو شكل ميسَّر ومنفتح، ولكنه لن يناسبك؛ لأن تلك الرسوم تتناسب مع البلاد الباردة، ثم إنها تطابق أكثر العقيدة الفكرية المتحررة لأقصى مدى.
ولم تكن الحضارة الإسلامية العربية تخشى التحرر، لكنه كان تحررًا واتساعًا حافظا على الخصوصية، لكننا نحب الإسكندرية ونحب خان الخليلي.
مقال رائع صديقتي ... افتقدت كتاباتك كثيرا بانتظار ابداعك
الله يحفظك صديقتي شهد. رمضان كريم حبيبتي. انا ايضا افتقدت كتاباتك والداعك . منتظرة مقالاتك قريبا
مقال رائع صديقتي عزة
أتمنى لك التوفيق
اخيرا احد كتب عن الخليلي
استمري موفقه
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.