مقارنات البوكر.. الحلقة الثانية جائزة عام «2009»

كثر الحديث طوال السنوات السابقة عن جائزة البوكر العربية ومدى استحقاق بعض الأعمال الفائزة، وعن أعمال مهمة استُبعدت.

قناعاتي دائمًا بأن ذائقة القراءة تختلف من شخص لآخر؛ لأسباب عدة كطبيعة شخصية القارئ، وأيضًا مدى خبراته وتجاربه واطلاعه.

فقررت أن أقارن الأعمال الفائزة مع أعمال من القائمة القصيرة للعام نفسه، أحيانًا أختلف وكثيرًا ما أتفق معها.

وتلك المقارنة الثانية لي عن جائزة البوكر، وهي عن عام 2009، وقد فازت في ذلك العام رواية (عزازيل) للكاتب المصري يوسف زيدان.

ووصل إلى القائمة القصيرة لهذا العام عدد من الأعمال الرائعة اخترت منها رواية (روائح ماري كلير) للحبيب السالمي، ورواية (الجوع ) لمحمد البساطي، ورواية (زمن الخيول البيضاء) لإبراهيم نصر الله.

وأبدأ الآن بتناول كل عمل على حدة وتقييمه.

اقرأ أيضًا دفاتر الوراق تفوز بجائزة البوكر العربية.. تفاصيل الرواية وتقييماتها على جود ريدز

رواية (الجوع) محمد البساطي، مصر 

الغالبية يعرفون رواية الجوع لكنوت هامسون، ولكن رواية الجوع لكنوت هامسون كانت ترتكز على فكرة جوع المعدة فقط. أنا شخصيًّا لم تعجبني ولم أستطع استكمالها، ولكن جوع محمد البساطي هو جوع بنكهة مصرية، جوع في الحب وجوع في الأمل وجوع في الجنس وجوع في كل مناحي الحياة.

زغلول وسكينة زوجان، من لم يزر الريف لن يراهما مع أنّ تلك الحالة الإنسانية أصبحت الآن تبدو ظاهرة للعيان في المدن، بعد سوء الأحوال المعيشية وتدهور المجتمع وارتفاع نسبة من هم تحت خط الفقر.

ولأني رأيت تلك الحالة على أرض الواقع فقد انبهرت بالرواية. فبراعة الكاتب أنه استطاع بأقل الكلمات وعدد صفحات تجاوز المئة بقليل مشاركة القارئ لحالة من أشد الحالات الإنسانية معاناة.

هي رواية بلا نهاية، فليست بقصة لها حبكة ونهاية، تبدأ بآلام الجوع وتنتهي بقسوته، فالجوع ليس له علاج، رحم الله من قال لو كان الفقر رجلًا لقتلته.

ورغم الفقر المدقع لكنهم يمتلكون عزة نفس ندر أن توجد بين الأغنياء.

رحم الله البساطي، فقد كان ملكًا متوجًا على عرش السرد والأسلوب البسيط والسهل القادر على جعلك تتعايش معه بكامل رغبتك في تفاصيل دقيقة يمكن أن تمر علينا مرور الكرام، لولا أنه يأخذ بيد القارئ ليغوص معه في تلك التفاصيل لتكتشف كنوز.

الرواية تستحق الوصول للقائمة القصيرة عن جدارة، والمنافسة أيضًا على أحسن رواية.

اقرأ أيضًا جائزة البوكر للرواية.. كل ما تريد معرفته عن الجائزة الأدبية للرواية العربية

رواية (روائح ماري كلير) الحبيب السالمي، تونس

(ذات يوم رحلت. فعلت ذلك ببساطة كبيرة. انفصلت عني بسهولة لم أكن أتوقعها على الإطلاق. سهولة غريبة جعلتني أعتقد أنه ليس هناك ما هو أكثر هشاشة من علاقة حب بين رجل وامرأة!).

بسهولة وبكلمات قليلة وصف نهاية علاقة حب، لن يشعر بتلك الكلمات وبوجعها إلا من عاش فعلًا الحب وفقد حبيبه.

وتلك إحدى أهم مميزات أسلوب الحبيب السالمي، فلقد قرأت له أيضًا روايته (نساء البساتين) التي وصلت هي أيضًا للقائمة القصيرة للبوكر، وكل منهما يستحق المنافسة على الجائزة.

الرواية مجرد ذكريات وتفاصيل صغيرة، وأروع ما فيها تلك التفاصيل الصغيرة التي لن تتأثر بها وتعترف بمدى براعة الكاتب إلا في حالة أن تكون عاينت تلك التفاصيل بنفسك في قصة حبك.

أحداث الرواية تدور حول رجل تونسي سافر إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه وبقي هناك.

يقابل ماري بعد مرور تسع سنوات على وجوده في أوروبا، يحبها وتنتقل للعيش معه.

الصراع بين الفكر والعادات الشرقية والثقافة الغربية، لم يستطع البطل بعد بقائه لسنوات أن يقتلع ما بداخله من موروثات شرقية بالية عن المرأة.

فدائمًا ما نرى المرأة مجرد جسد، وما يحرك الرجل الشرقي دائمًا هو الجنس، مهما تحدثنا بشعارات عن قيمة المرأة وتكريمها لدينا، فالواقع غير ذلك.

تحاول هي أن تكتشف روحه ولكنه يأبى، وكل ما يشغله هو أنها تثير داخله نشوة.

صراع الرجل والمرأة وصراع الشرق والغرب، صراع ما نريده وما نستطيعه.

الحبيب السالمي كاتب متميز بأسلوب متفرد، يمتلك أدوات الروائي.

لن يستطيع أن يستكمل قراءة الرواية من يرفض المشاهد الجنسية في الروايات، فروائح ماري كلير دائمًا ما تثيره لتحرك الرغبة بداخله.

الرواية عمل متميز ويعالج قضية قد لا تهم كثيرًا من العرب، ولكنها مشكلة لملايين المغتربين، وخصوصًا بلاد المغرب العربي، التي دائمًا ما تكثر الهجرة منها إلى أوروبا.

اقرأ أيضًا أهم 5 روائيات عرب.. تركوا بصمات ثابتة في عالم الكتابة

رواية (زمن الخيول البيضاء) إبراهيم نصر الله، فلسطين

ما أكثر ما كتب من مؤلفات عن فلسطين، ولكن الملهاة الفلسطينية تظل متفردة وعلى القمة.

إبراهيم نصر الله شاعر، وهل يوجد أروع من أن يكتب شاعر عن جرحه؟

وهل وُجد جرح لنا أكثر إيلامًا من جرح فلسطين؟

تفوق إبراهيم نصر الله على الجميع، لم ينقصه إلا الشهادة في سبيل قضيته مثل العظماء محمود درويش وغسان كنفاني، أطال الله في عمره، وأتمنى أن أراه رأي العين لأناقشه وأستمع إليه؛ فهذا الرجل ثروة من ثروات فلسطين.

ففلسطين ليست غنية بالموارد مثل دول أخرى تفيض بالبترول وينقصها الرجال، ففلسطين غنية برجالها، وكل رجل فيها مسخر للدفاع عن قضية وطنه كل منهم بطريقته.

خلال أكثر من قرن وتوالي ثلاثة أجيال يبين لنا المؤلف كيف اغتصبت فلسطين وكيف خذلها العرب.

محمود الجد الأكبر وكبير القرية، وخالد الابن الفارس والبطل والعاشق والمعشوق المجاهد، الهادية القرية الصغيرة المساحة الكبيرة بأهلها، اليمامة وقصة فرس عاشق مجاهد.

شخصيات حقيقية بأحداث حقيقية بتفاصيل من إبداع المؤلف، رسمها إبراهيم نصر الله بريشة فنان شاعر.

تلك الشاعرية تجدها حتى في فصول تتحدث عن الجهاد والمقاومة، هذا عمل كتب بحب.

رواية تستحق أن تُقرأ.

إبراهيم نصر الله تحكم في كل تفصيلة، وحافظ على المستوى المتألق نفسه من بداية الرواية حتى نهايتها. هي رواية عن الحب والموت والوطن والحبيب.

اقرأ أيضًا مقارنات البوكر الحلقة الأولى جائزة 2008

رواية (عزازيل) يوسف زيدان، مصر

الفكرة الأساسية للرواية تدور حول التعصب الديني وحرية الاعتقاد، اختار المؤلف حقبة زمنية أيام سطوة الكنيسة على الحكم، وأعتقد أنه لم يكن يقصد وصم الدين المسيحي بالتعصب ولكنه يقصد جميع الأديان.

تقييمات عالية جدًّا، وإشادات كثيرة من أناس أثق في آرائهم.

الرواية بها نقاط قوة ونقاط ضعف، وتقريبًا كلاهما متساويان.

في البداية يخبرنا المؤلف أن القصة حقيقية، ونكتشف بعد ذلك أنها من خيال المؤلف، حتى الهوامش وضعها ليؤكد على حقيقة فكرة وجود الأوراق، قيامه بدور الراوي والمترجم لتلك الأوراق المكتشفة، ووضعه لتلك الهوامش فكرة متميزة من المؤلف وساعدت في شد انتباه القارئ وتشويقه.

لغة السرد متميزة، وتلك الروعة في السرد ستجدها دائمًا متوفرة بكثرة على مائدة يوسف زيدان مهما كان العمل المكتوب؛ فتلك هي ملكة الموهبة، لكن الشخصيات جاءت مقتضبة مبتورة تظهر فجأة وتختفي بسرعة.

والمرأة في الرواية تبدو وكأنها لا تبحث إلا عن الحب والجنس، وهذا ما فعلته أوكتافيا وفعلته مارتا، ودائمًا هيبا الراهب المتأمل والراغب في الوصول إلى الحقيقة يضعف أمام المرأة، ويفكر دائمًا في ترك الرهبنة من أجل كل امرأة قابلها حتى يعود في النهاية مضطرًّا.

اقرأ أيضًا صدور 6 كتب مترجمة جديدة في عالم الكتاب العربي

أحداث القصة

تدور الأحداث حول هيبا، الراهب المصري الذي كان طفلًا على الوثنية وقت انتشار المسيحية في مصر وسيطرتها على البلاد وانتشر معها التعصب الديني والقتل باسم الرب حال كل الأديان مع المتعصبين فيها، فلقد شهد هيبا والده يقتل على يد متعصبين مسيحيين بوشاية من أمه التي تزوجت بعد ذلك من أحد القتلة.

يذهب هيبا إلى عمه المريض الذي يطلب منه تعلم الطب، ويتجه هيبا إلى الكنيسة لتعلم الطب وللرهبنة، ثم يسافر إلى الإسكندرية مدينة العلوم كما كان معروفًا عنها، ليجد جامعتها أصبحت ركامًا والتعصب الديني مسيطرًا على الأجواء، واندثار العلوم، والعودة للوصفات الشعبية بناء على تحريم الأسقف للعلوم الحديثة.

يتعرض للغرق، لتنقذه أوكتافيا، ليعيش معها أيامًا من اللذة والحب، حتى بدأ يفكر في ترك الرهبنة، وعندما يخبرها أنه راهب مسيحي تطرده لكرهها لرجال الدين المتعصبين، وتلقى في النهاية مصرعها وتُقتل على يد رهبان .

يقضي أعوامًا في الإسكندرية ليتعلم بواقي العلوم التي ما زالت موجودة، حتى يشهد مقتل هيباتيا أستاذة الرياضيات والفيلسوفة المعروفة، سحل وتعذيب وتعرية وقتل تحت مسمى الدين ثم إحراق جسدها.

يُصدم هيبا قي مقتل هيباتيا وأوكتافيا فيهرب من الإسكندرية، وفي طريقه يقف في أورشليم ليقابل الأسقف نسطور الوجه الآخر من الديانة بعيدًا عن التعصب والتطرف.

وينهل من أفكاره التي هي فعلًا ما كان يدور في رأسه، ويتجه بعدها إلى مستقره في كنيسة قرب إنطاكية تساعد هيبا في العيش في العزلة التي كان يتمانها، حتى تظهر له مارتا التي يعود لينزلق معها في الحب والجنس مرة أخرى حتى تتركه وترحل.

ذلك باختصار مجمل أحداث الرواية، لم تثر الحبكة بداخلي أي إثارة بقدر ما أثارني وجذب انتباهي حوار هيبا مع شيطانه عزازيل ونقاشهما الثري، محاولة الكاتب الغوص في التاريخ المسيحي والصراع الفكري والفلسسفي في الديانة المسيحية.

ويبدو جليًّا المجهود المبذول في الدراسة والبحث سواء عن التاريخ المسيحي أو المصطلحات الكنسية، وتلك نقطة تجذب الجميع لجهلنا الشديد بتلك الحقبة المنسية من تاريخ مصر التي امتدت نحو سبعة قرون كاملة بعد انتهاء حكم الفراعنة حتى دخول الإسلام مصر.

وأنصح بشدة بقراءة كتاب سندباد مصري لحسين فوزي لمن يهمه معرفة تفاصيل أكثر عن حقبة مصر المسيحية.

نادرًا ما يمتلك كاتب الشجاعة على الدخول في معترك تشريح الخطاب الديني وإظهار عيوبه والمطالبة بكسر الجمود الفكري سواء في المسيحية أو الإسلام، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع رأي الكاتب فله كل التقدير، وأنا على المستوى الشخصي أعتز به وأقدره وأستمتع كثيرًا بأعماله.

رسالة الكاتب هي طرحه لفكرة التعصب الديني، والجمود الفكري، وسيطرة الدين على العوام، ومتاجرة رجال الدين بجهل العوام الحالمين بالجنة؛ لاستغلالهم في سبيل السيطرة على السلطة، كما يدعو إلى حرية الاعتقاد.

بعد تقييم الأعمال الأربعة من القائمة القصيرة اقتنعت بأن رواية زمن الخيول البيضاء قد ظُلمت ظلمًا صريحًا، وأظن أن شهرة مؤلف عزازيل إعلاميًّا، وتجنب إبراهيم نصر الله الظهور والضجة الإعلامية هما من رجَّحا فوز عزازيل.

كثير من القراء أشادوا باختيار عزازيل، وذلك من الأعوام القليلة التي لم تثر ضجة حول أحقية العمل الفائز.

ولكن أرجح أن ذلك كان لأن قليلًا منهم من قراء زمن الخيول البيضاء، وذلك ليس تقليلًا من القيمة الأدبية لعزازيل؛ فهي رواية تستحق الفوز أيضًا بجدارة، ولكن في عام آخر ليس فيه رواية من الملهاة الفلسطينية.

إن اسم الملهاة الفلسطينية الذي أطلقه إبراهيم نصر الله على سلسلة روايته ليستحق جائزة في حد ذاته؛ لأنه أكثر اسم أُطلق على قضية فلسطين معبر عن واقعها وواقعنا جميعًا نحن العرب.

القائمة القصيرة كانت رائعة، والمنافسة كانت قوية، وجميع الروايات حصلت في تقييمي على خمسة نجوم كاملة، ولكن لو اضطررنا للترتيب فستكون:

1-   زمن الخيول البيضاء.

2-   عزازيل.

3-   الجوع.

4-   روائح ماري كلير.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة