كثر الحديث طوال السنوات السابقة عن جائزة البوكر العربية ومدى استحقاق بعض الأعمال الفائزة، وعن أعمال مهمة استبعدت.
قناعاتي دائمًا تقول إن ذائقة القراءة تختلف من شخص إلى آخر لأسباب عدة؛ كطبيعة شخصية القارئ ونشأته، وأيضًا مدى خبراته وتجاربه واطلاعه.
فقررت أن أقارن الأعمال الفائزة مع أعمال من القائمة القصيرة للعام نفسه، أحيانًا أختلف، وكثيرًا ما أتفق معها.
وتلك أول مقارنة لي مع جائزة عام 2008 التي فازت بها رواية واحة الغروب للروائي المصري بهاء طاهر، ولقد تضمنت القائمة القصيرة روايات متميزة عدة، اخترت منها رواية مطر حزيران للكاتب جبور الدويهي من لبنان، ورواية مديح الكراهية للكاتب خالد خليفة من سوريا، وسوف أتناول كل عمل على حدة.
اقرأ أيضًا لمحبي الأدب.. تعرف إلى العناصر الفنية للقصة
رواية مطر حزيران للكاتب جبور الدويهي
القلم اللبناني العذب جبور الدويهي الذي وجدته في القائمة القصيرة لجائزة البوكر في عامها الأول، وسنراه كثيرًا بعد ذلك على مدار سنوات الجائزة.
يتعرض الكاتب في هذه الرواية للحرب الأهلية اللبنانية عام 1957 ببحثه في أحداث مجزرة حدثت في تلك الأيام، وهي مجزرة باب الهواء التي قتل فيها والد بطل الرواية العائد من الغرب بعد أن حملته أمه، وفرت من البلاد؛ لتنجو به بعيدًا عن تلك الحروب، ليعود مرة أخرى بعد عشرين عامًا، يبحث فيما جرى، ويقتفي أثر الحادثة لنجد أنفسنا مشدودين معه قسرًا لرؤية تفاصيل وأحداث الحرب الأهلية على لسان شهود عيان ولسان الراوي في أحيان أخرى.
يبدو أن أسلوب أستاذ اللغة الفرنسية بالجامعة اللبنانية تشرب العذوبة من اللغة التي يدرسها، فطوال أحداث الرواية ستجد نبرة شجن، وقدرة على انتقاء أبسط الكلمات للتعبير بها عما يريد.
الصعوبة في الرواية سنجدها فقط في التنقل بين الشخصيات ورواياتها للأحداث وربط الماضي بالحاضر، لكني أجد أن ذلك أضاف للرواية، ونجاحه في الربط دليل على موهبة الكاتب السردية العالية.
سنجد كمًا كبيرًا من الكآبة في الأحداث، لكن تلك هي الحقيقة مع الأسف، فالحرب الأهلية لا سيما القائمة على الفتن الطائفية ليست نزهة، لكنها قتل بلا حدود وبلا نهاية وبلا سبب، مجرد قتل على الهوية والقاتل يكون مشاعًا.
ولا تزال لبنان بعد تلك السنوات تعيش، وقدمها على حافة الحرب تتجرع الانقسام والتمزق والفساد، ولا يزال تجار السياسة يتاجرون بدماء أهلها وبدينهم من أجل مصالح فئة قليلة.
الرواية جيدة مضمونًا ورسالةً وعملًا راقيًا من أديب يحمل هم وطنه.
وكما قال جبور الدويهي على لسان بطله:
«غرباء؟
نحن لا نقتل الغرباء، نقتل أبناء عمنا».
اقرأ أيضًا دراسة نقدية في مجموعة أحزان لا تجد من يكتبها للقاص جمال فتحي
رواية مديح الكراهية للكاتب خالد خليفة
مع أديب آخر محمل بهم وطن آخر جريح ينزف دمًا من وطننا العربي المبتلى.
منذ بدأت الانقلابات العسكرية في سوريا لم تذق البلاد إلا قهرًا وظلمًا وذلًا.
أسرة حلبية من بيت عريق يستعرض خالد خليفة سيرتها على مدار ثلاثين سنة من السبعينيات حتى تسعينيات القرن الفائت، يعطينا صورة مصغرة للأوضاع السياسية والحالة الاجتماعية لسوريا لا سيما تصادم نظام الأسد مع الجماعات الأصولية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
الصراع السياسي الطائفي كما الحال في رواية مطر حزيران مع اختلاف بسيط، وهو أن الصراع بين طرفين فقط هما السلطة والجماعات الأصولية، وهو في الأساس صراع على السلطة مغلف بغلاف ديني من الطرفين.
كبير العائلة بكر الذي يعد عضوًا مهمًا في جماعة الإخوان المسلمين، وكان من ضحايا اجتياح فرق الموت المدعومة من النظام، يترك أسرة تتخبط مما حدث لها ومما تتعرض له من تحرش النظام بفلول الجماعات، وذلك ببطولة نسوية خالصة من أخوات ثلاث وبنت أخت لهم مع خفوت للرجال عن البطولة.
يستخدم الكاتب أسلوب السرد المباشر للأحداث دون أي حوار أو قفزات تاريخية ما يساعد على شد انتباه القارئ والتملك منه، ورغم الإسهاب في بعض التفاصيل، لكن ذلك لم يؤثر في مستوى الرواية العام واتساق الخط الدرامي للأحداث.
يصعب تصنيف العمل أهو اجتماعي، أم سياسي، أم تاريخي، أم أدب سجون، ومهما كان تصنيفه فالمشترك بينهم جميعًا هو دماء وطن وشعب لا ذنب له إلا أن حكامه طغاة.
ما أروع خالد خليفة! لو قرأت العمل الآن ستجده متسقًا تمامًا مع أحداث سوريا الحالية التي أجمع العالم على وأدها، لكن الفارق الوحيد هو أن بشار الابن تفوق على أبيه في عدد القتلى، وأغرق سوريا كلها في بحر من الدماء.
اقرأ أيضًا كتاب القصة.. أفضل كتاب لتعليم كتابة السيناريو
رواية واحة الغروب للكاتب بهاء طاهر
مع العمل الفائز بالبوكر الذي حُوّل أيضًا إلى مسلسل درامي ناجح ليجمع المسلسل جوائز كما حصدت الرواية.
الرواية تدور أحداثها في واحة (سيوة) التي تستمر فيها الأحداث حتى النهاية؛ لينتهي البطل نهاية درامية غير متوقعة.
استطاع بهاء طاهر رسم الشخصيات بدقة وعناية، بل استخدم أسلوبًا غير معتاد في السرد باعتماد الحديث على لسان كل شخصية، الحديث لم يكن مجرد سرد لأحداث، وإنما كان صراع أفكار داخليًا لكل شخصية، فقد أجاد المؤلف في إظهار كل التفاصيل الدقيقة لكل شخصية.
تحكي الرواية قصة الضابط المصري محمود عبد الظاهر الذي نقل على سبيل التأديب للعمل مأمورًا للواحة في مهمة شبه انتحارية عقابًا له على تضامنه مع ثورة أحمد عرابي.
فتبدأ الرواية بمشهد دخول الإنجليز الإسكندرية، ويرى الضابط المصري خيانة الحكومة للثورة وتسليم البلاد للمحتل، ثم يحقق مع محمود عبد الظاهر لينقل إلى الواحة عقابًا له.
شخصية مليئة بالتناقضات والصراعات يصطحب معه زوجته الإيرلندية المليئة بالشغف نحو تاريخ الإسكندر والبحث فيه، إلى واحة تعيش في عزلة عن الزمن، لا يزالون مرتبطين بعادات بالية وخرافات قديمة مثل خرافة الغولة.
الرواية تحكي عن الوطن الذي احتله الإنجليز وثورة عرابي، وعن الخيانة وعن الموت.
كل ذلك يجعلني أقر بأنني أمام أديب متمكن من أدواته جيدًا، وعمل أدبي متميز يستحق فعلًا المنافسة.
اقرأ أيضًا محمد حافظ رجب: الأديب الصارخ الذي صمت طويلاً ومات أخيراً
مقارنة الأعمال
الأعمال الثلاثة تستحق بجدارة الوصول إلى القائمة القصيرة، بل الفوز.
الأعمال الثلاثة تحكي عن هم وطن ممزق، الحرب الأهلية في لبنان، والقمع الداخلي في سوريا، والاحتلال الإنجليزي في مصر.
الأعمال الثلاثة اعتمدت على أسلوب السرد المباشر والحديث على لسان الشخصيات وعرض صراعاتهم دون اللجوء إلى حوارات مباشرة بين شخصياتهم إلا فيما ندر، لكن في رواية مطر حزيران ومديح الكراهية كان السرد أقوى منه في واحة الغروب التي كثيرًا ما أصابتني بملل من إسهابات لا داعي لها، وتكرار لأفكار وتفاصيل أكثر من مرة.
الأعمال الثلاثة أجادت في رسم الشخصيات ببراعة، لكن في مطر حزيران ومديح الكراهية أجاد الكاتبان وصف المكان أيضًا بتميز كبير عن واحة الغروب، فبهاء طاهر لم يستطع رسم الصحراء في مخيلتي، ولم يسهب كثيرًا في ذكر تفاصيلها، واكتفى بصراعات الشخصيات وما يدور داخلها.
الخط الدرامي لواحة الغروب لم يكن به أي ذروة للأحداث، الرواية مجرد خط هادئ وسرد متصل بعكس الروايتين المنافستين، فلم تكفّ كلتاهما عن إثارتي على مدار أحداث الرواية.
الواقع الآن أثبت أن المحتل أرحم على البلاد من حكم أهلها، فالإنجليز والفرنسيون لم يفعلوا بالشعوب العربية مثلما فعله بها حكامها، ولنا في العراق وسوريا وليبا والسودان عبرة، المحتل في النهاية سيرحل، لكن الآخرين متى سيرحلون؟ لا تزال لبنان جبور الدويهى وسوريا خالد خليفة تقطر دمًا.
واحة الغروب فعلًا عمل أدبي مميز ومختلف لأديب رائع، ورغم سعادتي بفوز أديب مصري بالجائزة، لكني أجد مديح الكراهية هي الرواية الأجدر بالفوز، تليها رواية مطر حزيران ثم واحة الغروب، ليكون الترتيب كالتالي:
1. مديح الكراهية، خالد خليفة.
2. مطر حزيران، جبور الدويهي.
3. واحة الغروب، بهاء طاهر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.