تعد السرقات الأدبية وخاصة الشعرية منها من أنشط وأكثر أنواع السرقات شيوعًا وسط الأدباء والمهتمين بفنونه المختلفة، وسنعرف أكثر عن هذه السرقات من خلال هذا المقال، وكذلك أنواع السرقات الشعرية.
مفهوم السرقات الشعرية
لقد تواترت مفاهيم كثيرة أدت المعنى ذاته لهذا المفهوم لدى نقاد ولغويين ومؤولين، ما يثير إشكالًا في حدود المفهوم، ومقاييس إطلاقه، وجوانب دلالته والتباسه مع غيره.
هذا الإشكال صاحبه منذ نشوئه في المدونة القديمة ليكتسب في السياق الحالي اسم مصطلح آخر ذي دلالات مختلفة الغايات والآليات.
والسؤال هنا: ما القيمة الاعتبارية التأويلية فنيًّا وجماليًّا لمفهوم السرقات الشعرية؟
لقد خضع مفهوم السرقات الشعرية شأن أغلب المفاهيم لتغيرات في التصور والتناول والتطور والتطبيق.
ويمكن أن تتماثل ذخائر النقاد وعلماء الشعر وغيرهم بالنظر لاختلاف السياق الجمالي والشروط الفنية للشعراء والموقع التأويلي الذي يسند الناقد نفسه في اختلاف الحكم على السرقات والدلالة عليها، بالنظر إلى اختلاف رؤى كل منهم إلى المعنى الذي تنطوي عليه، أهي سرقة أم إغارة أم اجتلاب أم حسن أخذ أم قبح أخذ؟
هل كان الأمر في المعنى سواء المخترع أو المشترك، أم في الألفاظ، أم في الصورة، أم في الصياغة وغير ذلك؟ لكن ثمة آراء أن مصطلح السرقات لم يكن مصطلحًا للذم على إطلاقه. ما قد توحي دلالته المعجمية، لكنه "كان مصطلحًا عامًّا أُطلق على ألوان متباينة من الأخذ".
إن الرمي بالسرقة والأخذ يرمي إلى إظهار أشياء أهمها:
- إظهار الناقد المدعي مقدار حفظه وإلمامه بالشعر وإدراك متشابه قديمه وحديثه.
- إبراز الناقد المدعي مدى تمكنه من تبين مواطن الأخذ والإشارة إلى صيغتها أهي الصورة أم اللفظ أم المعنى.
- تفاوت مواقفهم بصدد من ثبت عليه أمر هذه الدعوى.
- تباين تقييم جمالية الصورة المستعارة من قبل الآخرين.
- العلاقة بالشعراء المتقدمين محكومة بإبدالات الوعي الفني.
- نشوب الخصومة حول مذاهب الشعراء المحدثين.
دواعي ارتباط المحدثين بحياض الشعر القديم
لمَ كان الأمر كذلك؟ ولماذا استمر الشعراء في إعادة اجترار نسبية للمدونة القديمة كما يزعم اللغويون، وصوغها في قالب بديعي بغض النظر عن التصور النحوي واللغوي والنقدي؟
هل كان للشاعر المحدث من خيار في أخذ أو دفع معاني المتقدمين؟
ألم يكن الشاعر مضطرًّا إلى استعمال معاني من تقدمه بالنظر إلى إلزامات النقاد والمربين الذين يحملون الشعراء المبتدئين على السير على منوال الأوائل واحتذائهم في المعاني والصياغة؟
إن النسق النقدي الذي عاشه الشعراء وكان فيما يبدو أقرب إلى الإطار الجامع المنغلق لجماعة ما، لها السياق ذاته والإمكان الفني والعصر والأغراض، حيث رسمت حولها حدودًا حديدية أحيانًا، كي تتماثل في إطار عمومها الجماعي مع المتقدمين؛ استجابة للأوامر الدستورية للغويين والنقاد الإتباعيين.
وإن كان النقاد العرب قد أوضحوا حق الشاعر في توسل معاني المتقدمين، والإقرار بالقيمة الفنية التي تكتسبها الصياغة الجديدة للمعنى المسبوق، غير أن أمر سلوك الاحتذاء ذاك مطلب صعب يضعهم في ملتقى تحديين:
- بعث آثار القدماء والسير في ضوئها لإرضائهم.
- الغوص في معاني غير مسبوقة لتأكيد الأصالة الذاتية.
الوعي التأويلي لمفهوم السرقات عند القاضي الجرجاني
هل كانت الرؤية التصورية لقضايا السرقات الشعرية مصاغة بسلطة التواتر والتقليد، أم أن طاقة إدراكها ارتبطت بسياق زمنها؟
الإجراء التأويلي الذي ندب القاضي الجرجاني نفسه للاضطلاع به في باب السرقات يتصل في نواحٍ خفية فيه إلى أن الأمر يتعلق بإثبات أصالة المتنبي ونفي السرقة عنه، وهو ما يعني هدم زعم الحاتمي في "الرسالة الموضحة" أن الطائييْن -أبا تمام والبحتري- سبقاه إلى كل المعاني وقد سار على آثارهما.
إن الجهاز التصوري للجرجاني موصول بصيغة أكثر رسوخًا، وهي ربط البحث في باب السرقات بمجالات وآفاق الابتكار والأصالة والتطوير والإضافة، ليتجاوز مبدأ الإغارة أو النقل أو السلخ.
إذا شئنا أن ننظر إلى المسألة من جانب آخر، نبرز أن أمر السرقات الشعرية التفت إليه الجرجاني في سياق حديثه عن العيوب التي رمى خصوم المتنبى بها شعره. ويبدو أن السرقة من السهام المصممة التي سددت للمتنبي.
السرقات المذمومة
وهي السرقة الظاهرة والخفية، إما أن تكون بنقل المعنى فقط، وإن أُخفي، أو بنقل المعنى واللفظ معًا. ويعرفها الجرجاني بقوله "فلا تكن كمن يرى السرق لا يكون إلا باجتماع اللفظ والمعنى، ونقل البيت جملة، والمصراع تامًّا، بل لا يعرف السرق إلا من يفعل فعل عبد الله بن الزبير بأبيات معن أوس. حكى أبو عبيدة وغيره أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده لنفسه:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
فقال له معاوية: لقد شعرت بعدي يا أبا بكر. ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن أوس المزني، فأنشده كلمته التي أولها:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
وقد كانت أدوات فهم السرقات الشعرية والحكم عليها مرتبطة بأسئلة ظلت كامنة لدى الجرجاني.
ولعل أمجد الطرابلسي من أبرز من تصدوا مبكرًا لأسئلة القضايا النقدية الشعرية للأدب العربي، ومنها مبحث السرقات الشعرية. ولعل أسئلته التالية عن المعنى موضوع السرقة: هل هو معنى للشاعر الذي نظمه؟ وإذا لم يكن له، فمن أي شاعر استعاره؟
ومَن الذي أبدع هذا المعنى أول مرة؟
وما القيمة الفنية التي تميز بها أول ما نظَّم؟
ثم مَن الشعراء الذين تعاوروه، فأضافوا إليه سماتهم الإبداعية الخاصة؟
تلامس بعض مما أتاه القاضي الجرجاني في ذخيرة تأويله بمقامه التواصلي مع تلك الأبيات. وعلى الرغم من كل ما يبدو من جدة فيما ذهب إليه، فيبدو أن الإشكالات التي أثارها ترتبط عامة بالسياق النقدي الذي اختلف تعاطيه مع هذا المفهوم، حتى تعارضت المواقف؛ لذلك ما يجب أن نقرر أمر التحرج في القول بالسرقة الشعرية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.