مفهوم الجريمة في أعمال "ديستويفسكي"

يتحدث المقال عن مفهوم الجريمة باتخاذ رواية دوستويفسكي (الجريمة والعقاب) على لسان بطلها (راسكولنيكوف) نموذجًا.

يقسّم الكاتب الناس إلى فئتين: الفئة الأولى هم العاديون الذين يعيشون دون تأثير أو فكر خاص، والفئة الثانية هم الموهوبون أو الخارقون الذين يخرجون عن العادة، ويؤثرون في العالم بأفكارهم.

وتُعد الجريمة للعاديين محظورة وتتطلب عقوبة صارمة، في حين يُنظر إليها عند الموهوبين على أنها وسيلة ضرورية لتحقيق أهداف أكبر. 

اقرأ أيضًا روائع الأدب الروسي.. تأملات في أعمال تولستوي وديستويفسكي

العلاقة بين العبقرية والجريمة

يسعى المقال إلى مناقشة العلاقة بين العبقرية والجريمة، متسائلًا عما إذا كانت الجريمة مبررة لتحقيق أفكار خلاقة، ويتطرق إلى حوار بين شخصيات الرواية عن الضمير الأخلاقي، والمعاناة التي يمكن أن يشعر بها من يرتكب الجرائم، ما يفتح المجال للتفكير في الأخلاق والفلسفة.

وينتهي المقال بتأكيد فكرة أن الجريمة يمكن أن تكون جزءًا من مسعى أكبر للإنسانية، مع التأكيد على التعقيد النفسي والأخلاقي المرتبط بهذه المفاهيم.

يطرح ديستويفسكي في روايته (الجريمة والعقاب) على لسان (راسكولنيكوف) بطل الرواية مفهومًا للجريمة يصعب استيعابه، ويصعب قبوله أو رفضه.

فقد قُسِم الناس إلى نوعين: النوع الأول هو من يُطلق عليهم (أناس عاديون)، أو كما أطلق عليهم (نيتشه) حينما طرح هذا الفكر هو الآخر (فائضون عن اللزوم)، فهم أفراد موجودون لمجرد الوجود، مستهلكون وغير مؤثرين، لا يملكون رؤًى أو مذهبًا أو فكرًا خاصًا، عاديون غاية العادية، لا يؤثر غباؤهم أو ذكاؤهم في تصنيفهم من فئة العاديين، فغباؤهم يكون هو الشائع، وذكاءهم من الفئة العادية.

أما النوع الثاني فهم من تخطوا حاجز العادية، وانشقوا عن القطيع، فئة من الموهوبين أو الخلاقين صانعي العوالم، كوّنوا فكرًا أو مذاهب أو مجتمعات كاملة أو تيارات، فأثروا في العالم.

هم أناس أمثال محمد صلى الله عليه وسلم ونابليون والإسكندر والمسيح وسقراط، هذه الفئة إذا لم يكن فرض أفكارهم وتأثيرها جاء على نطاق تاريخي فيكون على نطاق محلي.

وإذا ما لم يكن نطاق تأثيرهم في نطاق محيطهم، فسيكون في نطاق أنفسهم، فيكسرون لأنفسهم حاجز العادية؛ لذا يوضع مفهوم الجريمة تبعًا لصاحبها، فالجريمة بالنسبة للفئة الأولى تُحَرّم.

أما عند الفئة الثانية فجريمتهم تكاد تكون حتمية، وإذا ما مضيت أعمق من هذا تجد أنه يلزم عليهم ارتكاب جرائمهم، أو هي ركن من أركان تصنيفهم في هذه الفئة.

اقرأ أيضًا كيف يمكن لكتب "ديستويفسكي" أن تغير حياتك؟

تقسيم المجتمع إلى فئتين

إن أفراد الفئة الأولى (العاديين) هم أفراد وُلدوا للطاعة والخضوع، وهم أفراد يتسمون بالأخلاقية الشديدة والمنهجية المستقيمة الثابتة، فهم ضد أي تغيير أو كسر للأعراف أو القوانين القديمة.

فأدمغتهم وطبيعتهم لا تسمح بالإتيان بجديد، وليس يعيبهم هذا الأمر، ولهذا فإن الجريمة الصادرة من أولئك تعد جريمة بمعناها المعروف، وتتطلب المحاسبة والعقوبة الصارمة.

أما إذا انتقلنا إلى الفئة الثانية، فهم بطبيعتهم يأتون لتحرير المجتمع من قانون ما، أو كسر نظام قديم وإنشاء آخر، أو تحرير أمم من سلطة ما، فهم عادة يأتون لتخريب ما هو موجود، وإنشاء ما هو أصلح أو ما هو جديد؛ لذا ترى الجريمة حتمية لتحقيق مثل هذه الأهداف.

وتختلف نسبة ضرورية الجريمة باختلاف مدى أهمية هذا الهدف للإنسانية أو للمجتمع، فلو كان مطلوبًا من نيوتن لإنجاز اكتشافاته أن يقتل وأن يخطو على مئة جثة، لكان من الصواب أن يخطو على هذه الجثث.

بل كان هذا فرضًا عليه ومن واجبه أن يقتل كل من حال بينه وبين هذه الغاية، وإن فعل غير ذلك فقد أثم.

ومن فئة العاديين يوجد من يتنكر في صورة الخارقين (أصحاب الفئة الثانية)، فهم يظنون أنفسهم أو يتظاهرون بأنهم من فئة الخارقين الموهوبين أصحاب التيارات الجديدة والأيديولوجيات المختلفة والأفكار والمذاهب المُخَلِّصة من الفكر السائد المتحجر.

هم من يصدقون أنهم من يزرعون الصحراء، وهم يستغلون تصديقهم لهذا التصنيف الذاتي، ويستبيحون لأنفسهم القتل والجريمة في سبيل تحقيق أهدافهم، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا منهم.

فهم بطبيعة الحال ومع مرور الوقت يجلدون أنفسهم بأنفسهم، ويعاقبون أنفسهم أشد عقاب، أو تعاقبهم الطبيعة، ويقفون عند حد لا يتخطونه، ويكون تفكيرهم زائفًا وعزمهم فارغًا واستطاعتهم ناقصة، فلا يمضون قدمًا، وجريمتهم تكون في أنفسهم.

اقرأ أيضًا معلومات عن دوستويفسكي.. أشهر أدباء روسيا

فئة الخارقين

وقد يجد أصحاب الفئة الأولى أن أصحاب الفئة الثانية مجرمون، وينادون بذبحهم وإعدامهم، ومع مرور الزمن نجد أحفاد هؤلاء ممن دعوا إلى إعدام من عدّوهم مجرمين يبجلون هؤلاء المجرمين، ويخلدون أسماءهم في كتب التاريخ، ويعدونهم رموزًا غيرت العالم.

إذن، هل يوجد شيء يميز هؤلاء الخارقين الموهوبين أصحاب الفئة الثانية؟ هل تحيط بهم هالة خاصة أو ما شابه؟

لا تقلق من هذا أيضًا؛ لأن هؤلاء الذين يملكون فكرة جديدة أو يقدرون على التعبير ولو قليلًا عن شيء ما جديد لا يُولد منهم إلا قلة قليلة، ونسبة هذه الفئة يحددها قانون طبيعي ما لا نعرفه على وجه الدقة، لكنه موجود. 

نسبة الأفراد من هذه الفئة الذين يكونون على درجة عالية من الاستقلال واحد إلى عشرة آلاف، وهذا على وجه التقريب.

أما من هم على درجة أعلى من الاستقلال فتكون نسبتهم واحدًا إلى مئة ألف، وأما العباقرة فنسبتهم واحد إلى مليون، وعندما نأتي لكبار العباقرة يجب أن تنتظر مرور آلاف الملايين من الأفراد على الأرض ليظهر منهم واحد فقط.

اقرأ أيضًا الجريمة والعقاب.. أبرز روايات الأدب الروسي

من يفعل الجريمة ومن يستحق العقاب؟

ولمناقشة فكرة: لمن تصلح الجريمة ومن ينال العقاب نجد حوارًا يدور بين شخصيات الرواية، طُرِح على راسكولنيكوف بطل الرواية سؤال: إذا عدّ شخص ما نفسه من هذه الفئة؛ أي فئة العباقرة الموهوبين.

ولتحقيق هدفه يجب عليه القتل أو كان يحتاج إلى المال فنفذ جرائمه وقتل وسرق، فماذا يعد هذا؟ وماذا يستحق؟

  • هكذا جرت الأمور، إن المجتمع تحميه المنافي والسجون، فلم القلق؟
  • طاردوا السارق.

·     وماذا إذا قبضنا عليه؟

·     إذن، فهو يستحق.

·     منطق، وماذا عن ضميره الأخلاقي؟

·     من كان له ضمير أخلاقي ليس له إلا أن يتعذب إذا اعترف بخطيئته.

·     والأشخاص الذين يملكون العبقرية حقًا، الأشخاص الذين أُعطوا حق القتل، هل يجب عليهم ألا يتألموا إن سفكوا دمًا؟

·         ألا فليتألم من تأخذه بضحيته شفقة، لا بد أن يتألم من هو واسع الوجدان عميق الشعور، يُخيل إليّ أن الرجال العظماء حقًا لا بد أن يشعروا على هذه الأرض بحزن عظيم.

كان هذا الحوار من أعظم ما قرأت يومًا، ما جعلني أغوص في أعماق عقلي منتشيًا في ذهول عاجزًا عن طرح الفكرة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

أحسنت النشر.. بالتوفيق
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

احسنت أحسنت النشر.. بالتوفيق
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة