ليست الثقافة برجاً عاجياً ولا حصناً ميتافيزيقياً، وإنما هي القدرة على ممارسة التكنولوجيا الثقافية، وهي درجة تتوسط بين العلم والفلسفة، والمثقف التكنولوجي لديه القدرة على إدخال حقيقة الجهل إلى نفس الجاهل دون نعته بتلك الصفة، ويحمل في ذات الوقت مقصداً إنسانياً يهدف إلى إدراك المتلقي أهمية المعرفة.
اقرأ أيضاً الثقافة بين المفهوم والممارسة وعلاقتها بالتربية والعولمة
ما هي الثقافة؟
والأمية ليست بجهل، وكذلك فإن قلة أو عدم المعرفة ليست بجهل أيضاً، وقد يكون الجاهل قارئاً وكاتباً، وقد يكون لديه بعض المعارف، إنما الجهل هو عدم الإدراك بحقيقة الجهل والتحدث بما لا يلائم المستوى العلمي والثقافي والفكري للمتحدث، وبما يتنافى ومنطق الأمور.
وهو باختصار شديد النطق بالهوى أو الدخان بلا لهب، وهذا ما يعادل بين الجاهل والمريض النفسي الذي تكمن عقدته في تواري المسبب عنده في طيات اللاوعي، وكما يعمل الطبيب النفسي على خروج المسبب إلى الوعي أو بؤرة الشعور كأول خطوة من خطوات العلاج يعمل المثقف على خروج إدراك الجاهل بعدم توازى القشرة مع المضمون لديه.
وطرح هذا الإدراك أمام ذات المتلقي، وأيضاً كخطوة أولى من خطوات التصحيح الفكري الذي لا بد من أن تتم بحذر شديد، فهي تتجه لإقناع الجاهل بأنه في حاجة للمساعدة، كذا يجب تجنب إضفاء شعور التحقير أو التقليل من الشأن عليه حتى لا تأتي النتائج بأثر عكسي أو سلبي.
اقرأ أيضاً أهمية الصالون الثقافي وأهم الصالونات والكتاب ودوره في تنمية ثقافة المجتمع
كيف يمكن أن نتعلم؟
فأما المتعلم فهو من يمتلك أدوات المعرفة، وعليه إجادة استخدامها لتعميق هذه المعرفة، وامتلاكه لأدوات المعرفة يبدأ من نقطة الانتهاء من مرحلة التلمذة؛ أي الانتهاء من كافة مراحل التعليم الإلزامي، وهي المراحل التي تلزمه وتجبره على التلقي.
وهو ما يهدم نظرية تسمية التلميذ باسم الطالب حتى لو كان جامعياً؛ لأن اسم الطالب يرتبط بالتلقي الاختياري للعلم؛ أي سعي الشخص للحصول على المعرفة باستخدام ما يملكه من أدوات تعينه على ذلك في مراحل تعليمه الإلزامية، وعليه توظيف تلك الأدوات.
ومعرفة كيفية تسخيرها واستخدامها لتعميق المعرفة وإلا.. أيجوز وصف شخص بصفة النجار لمجرد امتلاكه للمطرقة والمنشار والمسمار أم بمعرفته الجيدة بسبل استخدام هذه الأدوات؟ فالمتعلم هو الشخص العارف والساعي إلى المزيد من المعرفة سعياً حثيثاً والمالك لأدوات المعرفة والقادر على استخدام هذه الأدوات في تعميق تلك المعرفة.
والعالم هو من يربط المعارف، ويوفق بينها لاستخراج نتيجة، والفرق بينه وبين المتعلم هو أن المتعلم يجمع المعارف، والعالم يصنعها، كما أن مفهوم العالم يختلف عن المخترع؛ أي المكتشف، ويختلف أيضاً عن مفهوم العبقري، فبينما يستخرج العالم نتائج بالربط بين المعارف، فإن المخترع أو المكتشف يستخرج نظريات بالربط بين النتائج وتحويلها إلى أداة جديدة قابلة للاستغلال، بينما العبقري ما هو إلا صاحب درجة من درجات الذكاء في مختبرات القياس.
اقرأ أيضاً كيمياء الثقافة والأدب
هل العبقري عالم؟
وقد لا يكون العبقري عالماً، وقد لا يكون العبقري أيضاً مخترعاً أو مكتشفاً، وكذلك العالم قد لا يكون عبقرياً، وقد لا يرتقي لمستوى المخترع أو المكتشف بينما يكون المخترع أو المكتشف عالماً وعبقرياً في ذات الوقت وبصورة حتمية ومطلقة، وتلك مفاهيم التفرقة بين المتعلم والعالم والمخترع والعبقري غابت في متاهات الفكر المجتمعي لدينا، كما غاب مفهوم أن العالم والمخترع ليس بالضرورة أن يكونا في مجال العلم المادي فقط، ولكنهما قد يكونان في مجالات أخرى كثيرة كالأدب والشعر وغيرها من المجالات.
وعن المثقف إذا كان العلم هو إدراك الوجود، فالثقافة هي الوعي بهذا الوجود، وهذا هو الفرق بين العالم المكتشف والمثقف المتطلع، فالعالم يدرك الوجود بعلّاته، وواقع العالم يمتزج فيه الخير بالشر والإيجابية بالسلبية، فلدينا على سبيل المثال لا الحصر العالم المكتشف للدواء الذي يخفف الألم.
والآلة المنتجة، والسيارة والقطار والباخرة والطائرة لطي المسافات، ولدينا العالم الذي اكتشف السلاح النووي الفتاك الذي يدمر الإنسانية، ومن حضر وجهز فيروسات للأمراض بهدف نشرها في حروب بكترولوجية لعينة، بل إن بعض العلماء من توصل إلى نظرية سلمية من أجل حياة أفضل للإنسانية، وبعضهم من استخدم نفس هذه النظرية في اكتشاف نظريات أخرى ضد المصلحة الإنسانية.
الثقافة والمثقفون
أما المثقف فإنه يعمل دائماً على إحداث نوع من التوازن بين الأمور من منطلق وعيه بالوجود، فيبحث مثلاً عن التوازن بين السياسة والسلام، وبين المصالح الدولية والاستقرار، وبين الحروب وأمن الإنسان، وهكذا.. فالمثقف هو المهذب للأمور، الواعي بأفضل سبل العيش المكمل للنتائج العلمية بفكر إنساني بحت، والمثقف ببساطة واختصار هو راعي العلم والعلماء والمنتفعين أخذاً في الاعتبار الحاضر الإيجابي والواقع المر والنظرة المستقبلية المتفائلة في ذات الوقت.
وعن الشاعر فإن نظم الشعر حالة خاصة عند الشاعر، بل إن الشاعر ذاته حالة خاصة جداً من البشر، فهو من المثقفين، ولكن يزيد عنهم بالملكة؛ أي الموهبة من ناحية، وهو بشر ولكنه يزيد عنهم بتأجج العاطفة والنظرة الإيحائية المتأملة فيما هو وراء الواقع وهو ما يسمى بالرومانسية من ناحية أخرى.
وصفة الرومانسية هي صفة للشريحة الأقل من البشر، بل إنها قد تسبب لأصحابها بعض التنمر في كثير من الأحيان، والغريب المدهش أنه بالرغم من رومانسية الشعر إلا أنه ارتبط بالعصور الواقعية، وقد يكون تبرير ذلك الحاجة في البحث عن أشياء غير منظورة وغائبة وإيجادها لا سيما تلك التي ترتبط بالعاطفة والأحاسيس.
وذلك بدليل أن العصور المتسمة بالفطرة الشديدة أو المعجزات الخارقة أو الخرافات خلت نسبياً من ظاهرة الشعر إلا من بعض الأغاني والأهازيج التي لا تحمل في طياتها أحاسيس عميقة أو تعبيرات نفسية انفعالية متوهجة بينما فاضت وتوهجت تلك الظاهرة مع حلول عصور التعقل والمنطقية مثل عصر الجاهلية، وعصر ما بعد ظهور الإسلام، والعصر الأوسط، والعصر الحديث، حقاً إن الشاعر هو حقيقة ثقافية خاصة جداً.
والفيلسوف ما هو إلا مثقف يتميز عن سائر المثقفين بأن السبب لديه عبارة عن نظرة تأملية تسمى بالحكمة، فبينما يعكف العالم على معرفة السبب والمسبب، يعكف الفيلسوف على معرفة حكمة الأشياء وأثرها على المحكوم بها.
كما أنه يتميز بأسلوب تسلق أسوار وأعمدة الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) لا من باب الخرافة أو السحر أو التنجيم، بل باعتبارها واقعاً غير منظور مستخدماً مبادئ الأخلاق ونظريات المعرفة والمنطق والنظريات الاجتماعية وكذلك العلوم الطبيعية، والفلسفة السياسية، والدينية، وغيرها.
والفيلسوف هو مصطلح يوناني أصله كلمة فيلوسوفيا، وتعني محب الحكمة وهو الشخص الذي يستغرق في محاولات الإجابة عن أسئلة تأملية مستقصياً حلولاً منطقية تغني عن الأدوات الملموسة المستخدمة في تفسير الوقائع المنظورة، وهذا ما يميزه عن العالم الذي يحاول إيجاد تفسير للوقائع الملموسة بينما يحاول الفيلسوف البحث عن حكمة الوقائع غير المنظورة باعتبارها واقعاً وله أثر على أرض الحقيقة.
يناير 4, 2023, 7:36 ص
مقال جميل و مفيد جدا
يناير 6, 2023, 12:40 م
وافر شكري وامتناني
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.