حقيقة، كما قال دوستويفسكي -ذاك الذي اختار الصمت بعدما قال كل شيء، ليس لأنه نفد من الكلام، بل لأنه أدرك أن لا أحد يستمع فعلًا.
كنت أظن -ويا لغباء الظن- أنني إذا نزفت ما بداخلي كما يُفرغ إبريق شاي نُسي على النار، فسأُشفى. تخيَّلت أن البوح علاج، وأن تفريغ الذات كفيل بتطهيرها. لكن الحقيقة؟ الحقيقة وقحة، لا تغادر حتى لو صرخت في وجهها.
اكتشفت متأخرًا أن الكلام لا يحل شيئًا، وأن ما يُعتقد أنه مستور، مفضوح حتى العظم. لا أحد ينجو من عينيه، لا أحد يُخفي شيئًا إلا ويُسربه في تصرف، في نبرة، في نظرة تصرخ بما لا يُقال.
كل شيء واضح، فجّ، جالس على السطح كقطة شبعانة تتحداك أن تنكر وجودها.
الوجوه تتكلم، التصرفات تنبح، والعلاقات تُعرِّي نفسها من أول لقاء. فلمَ نكذب؟ لمَ نتظاهر بالدهشة كل مرة تنهار فيها الحقيقة التي كنا نعرفها مسبقًا؟
لهذا أقول لنفسي: دوستويفسكي لم يكن فيلسوفًا فقط، بل كان شاهد عيان على انهيارنا الداخلي. الصمت لم يكن انسحابًا، بل إعلان حرب: «أنا رأيت، فهمت، وسأراقبكم وأنتم تغرقون فيما نطقتُ به منذ زمن».
ما كنت أريد أن أصرخ به، قيل. ليس فقط قيل، بل كُتب، صُرخ، وُشمّ على جدراننا. لكنني لم أكن أملك الوعي لأقرأه.
ويا للسخرية: لكي تفهم تلك الحقيقة، لا يكفي أن تسمعها أو تراها، بل يجب أن ترتطم بها وجهًا لوجه، أن تعيشها، أن تنكسر وتضحك بسُمية، تمامًا كما قال دوستويفسكي—تقول كل شيء، كل شيء، ثم تنسحب إلى صمتك، ليس ضعفًا، بل لأن الحقيقة لا تحتاج إلى تكرار.
ربما السبب أننا لا نفهم، ولا ندرك تمامًا مستوى الوقاحة التي تتعامل بها الحياة معنا. نعيش بوهم أن الأشياء تُقال بلطف، أن الكدمات تأتي باعتذار، لكن الحقيقة؟ الحقيقة تصفعك بيد باردة، دون أن تكلِّف نفسها عناء التبرير. نحن لا نستوعب إلا متأخرين أن العالم لا يتعاطف مع هشاشتنا، بل يعرّيها، يستعرضها كعيب لا يُغتفر.
لهذا، يصبح الصمت خيارًا أمثل. لا لأنه راحة، بل لأنه تجنّب مؤلم للندم. الصمت لا يفضحك، لا يجرّك لخذلان جديد، لا يتركك عاريًا أمام من لا يستحق رؤيتك. هو لا يمنحك خلاصًا، لكنه في الأقل لا يضيف جرحًا جديدًا إلى كومة الجروح القديمة. الصمت هو ما نلجأ إليه حين نفهم أن النجاة لا تكون بالصراخ، بل بالانكماش في الزاوية الأقل إيذاء.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.