في ليلةٍ ما كان كل شيء حولي ساكناً إلا داخلي لما يكن كذلك إطلاقاً، بسكون قاع المحيط ظاهري، وبثوران البراكين التي تأبى أن تهدأ داخلي..
فما بالك بشخص يخوض حرباً ضد ذاته؛ في رحلة بحثه عن المعنى؟
لستُ سوى شاب في مقتبل العمر، لا أرغب بشيء سوى العزلة، فقد تجرعتُ مرارة الضيم، وارتشفتُ من الآلام أمرها، اعتصرتُ وجعاً في ليالٍ عديدة.
لقد جاءت كل الأشياء دفعة واحدة لدرجة كدتُ فيها من فرط أفكاري أصاب بالجنون، وحينها كل الأشياء اختارت أن تهجرني.
لستُ أُلقي باللوم على أحد، فحتى أنا حينما سنحت لي الفرصة هجرتُ ذاتي، صرتُ قليلاً ما آبه للحياة أو بصدق لا آبه البتة.
أصبحتُ حينها لا أفرِّق بين الشر المحض أو الخير المطلق.
يُقال حين يفقد الإنسان المعنى تصبح كل الأشياء بلا قيمة، تصبح الأماكن متشابهة، والأشخاص مملين وقد يفقد ذاته للأبد..
فما المغزى من المعنى؟
وبصدق أكثر..
ما هو المعنى؟
حتى ذلك اليوم تحديداً كنت أعتقد أن حب الله لنا لا يجتمع مع الشدائد؛ لذا كلما مررتُ بموقف عصيب أُكِنُ في قرارة نفسي سؤالاً فحواه..
ألا يحبني الله؟
وقفتُ حائراً كثيراً أمام هذا السؤال إلى أن جاء ذلك اليوم الذي استيقظتُ فيه لأداء صلاة الفجر بنشاط وقوة لم أعهدهما قط.
توجهتُ نحو المسجد بسكينة طوقتني مع كل خطوة، كمقاتل ذاهب لينال شرف الشهادة أو ليتذوق مجد الانتصار.
بعد أداء الصلاة جلستُ مطولاً في المسجد، بدأتْ أفكاري تهدأ رويداً رويداً لدرجة كدتُ أسمع صوت مجرى الدم يسري في جسدي.
في خِضم ذلك السكون رفعت عينيّ وإذ برجلٍ ما إن رأيته إلا وصرت تود رؤيته للأبد، بدا لي في العقد السابع من عمره، بلحية يتخللها بياض الياسمين.
نظر في عينيّ ثم قال بصوت تتخلله الرحمة:
- يا بني.. لا أعلم ماذا دهاك، لكن لتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
قلت له:
-لكن ما أصابني كان من شدته جعلني أعتقد أن الله لا يحبني.
ابتسم بهدوء ثم قال:
-أُريد إخبارك أنك مهما بلغتَ درجة من الإيمان عليك معرفة أن أمر المؤمن كله لخير، هوِّن على نفسك..
وأن الحزن قد يجتمع في قلب المؤمن العابد الزاهد، وحب الله لنا لا يتنافى مع المواجد وصعوبة الطريقة..
لم نُخلق لنكون في سعادة مطلقة، بل علينا أن نحتمل بعض المشاق..
ولم يكن الصبر يوماً هيناً لذلك لم يحدد الله أجر الصبر لعظمته لذلك قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"..
لو لم يكن الصبر عبادة عظيمة لما كان أحد أبواب الجنة، ألا تريد أن يضطلع الله على قلبك فيراه يعتصر ألماً، لكن لسان حالك يردد "الحمد لله"..
أتعلم شيئاً ..
أحياناً نظن أننا قادرين على تخطي بعض المصاعب، فنجد الطرق مكفهرة ووعرة بالكامل فيصيبنا اليأس، لكننا نحتاج دائماً أن نسلم أمرنا لله في كل حين، لندرك أن أعظم أحزاننا يقدر عليها الله..
وبعد الصبر جبر حتى وإن تأخر وتكالبت علينا الهموم..
هوِّن على نفسك فأنت بين يدي الله، وموعدنا الجنة التي لا وصب فيها ولا نصب، فهي دنيا،..
حتى الأنبياء كان لهم نصيب من الألم، فيعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن، لذلك أول الذي قاله: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ"..
فبعد الصبر جبره الله ورد له يوسف وبنيامين، ودخل في ملك يوسف عليه السلام، ودخل مصر بأمان الله،..
وإن حب الله لك لا يعني عدم تعرضك لبلاء، قد تتعرض للبلاء وأنت في أوج حبك لله، ومع محبة الله لك..
فَلَو لم يحبك لما اختبرك بالصبر الذي هو أحد أبواب الجنة، فنحن نتعلم أحيانا بالمنع، بالصبر على الشدائد لنعي أن مرارة الحياة في باطنها حلاوة لن يتذوقها إلا من تجرع الألم..
والأتراح وإن طالت فإنها بلطف الله ستمضي كما يُقال:
"إنها أيام قلائل وستمضي والموعد الجنة".
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.