مع بدء معرض القاهرة للكتاب، وعودة الجدل على المعرض الذي يبدو ضرورة شعرية في سطور الإعلان عن المعرض كل عام يسبق غيره، أتساءل عن واقع الثقافة والأدب المعاصر مع التطور التكنولوجي السريع، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ما الذي تغيَّر؟ هل تغيَّر جمهور القُراء، أم تغيَّر المؤلفون ونوعية الكتب، أم تغيَّر مفهوم المعرض كله، ليتحول من حدث ثقافي ضخم إلى حدث لاستعراض مجلدات الكتب وشهرة الكُتاب وعناوين كتب لا تنتمي للعربية بصلة؟
القراءة في عصر التكنولوجيا
يتساءل أحدهم في مدونتي: لو مُنع التصوير في معرض القاهرة، ماذا سيحدث؟ ساد الصمت في خانة الإجابات، وكل الأسماء التي عُرفت بفلسفتها التي أحب دراستها وتبنيها كحكماء هذا القرن لتلاميذهم، كتبوا: لا نعرف. هم الذين عاشروا معرض الكتاب في قلب ما كان المعرض حدثًا يُؤتى من أجله من جميع الطرق المعترضة وكل المحافظات البعيدة، واليوم يبدو حدثًا عاديًّا يجمع فيه كل الجموع بعد أن كان جمعًا للنخب المثقفة، والكُتاب هم كنوزها، والقُراء كانوا قُراءً بمعنى الكلمة.
إن القراءة بمفهومها البسيط تغيَّرت، ولم تعد تبدو كما كانت بتلك السطوع والكيان المنفرد عن العلوم كلها، وأساس يبني عليه كل عالم ومفكر في أمر في الدنيا. فالقراءة اليوم تغيَّرت بالنمط المظهري من انتشار الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية، وظهور عدد من المنصات الرقمية.
وظهرت عدد من وسائل التعلم المختلفة غير القراءة، فما عادت القراءة سيدة الموقف الأولى. فبات التعلم الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي هي مصدر المعلومات الأول، فصارت القراءة مصدرًا لمظهر اجتماعي، أحد المظاهر التي يسوِّق لها الإنترنت.
تغيرت مفاهيم القراءة والقُراء بحد ذاتهم، فغالبيتهم بدأوا بجعل الأمر يبدو حدثًا أو طابعًا يعطى الناس دون البحث والسعي عن المفهوم الحقيقي للقراءة واكتساب المعرفة وزيادة الوعي.
وبطبيعة ذلك تغيرت نوعية الكتب والمؤلفين، بل وازدادوا، وبدأت الكتابة تبدو شيئًا مألوف الهيئة، سهل الصياغة لمن أراد. تغيَّرت كل الذائقة الأدبية لتبدو سطحية للغاية، بعمق سطحية مواقع التواصل الاجتماعي، فلم تغيِّر القراءة سطحية القُراء من واقع معاصر يحث على التفاهة والانجرار وراءها، بل تغيرت القراءة كلها كمفهوم وككتب مكتوبة لتبدو شيئًا يحاكي كل هذه السطحية وليس العكس.
ما زال هناك أدب حقيقي
على الرغم من هذا، ما زال يوجد كثير ممن يحاولون إسعاف الواقع وإنجاد الأدب العربي قبل أن يغرق بكل هذه المياه الضحلة.
ما زال في الوقت والعمر متسع للذين يحاولون كتابة الواقع والأدب كما كان يجب أن يكتب وكما يستحق من عنفوان الروح العربية وأدبها وتاريخها المملوء بالجمال الذي نُقل لكل لغات العالم.
ما زال يوجد قراء كُثر يحاولون النجاة من كل هذه السطحية المحيطة بهم، بل يبحثون في كتب حقيقية وأدب حقيقي وعلم واسع، أوسع من المعارض والعناوين والصور، علم تسعه العقول الفذة والقلوب المتعطشة لبناء أنفس قوية واعية بكل معطيات الواقع.
ما نستطيع صياغته اليوم وتلخيصه هو أن القراءة اليوم لم تعد كما كانت أمس، ولم تعد منفردة بالوعي والواقع، بل بات منافسوها كُثُرًا. وأن القراءة وحدها اليوم لا تكفي، والكم لا ينجد، فالنوع أهم من الكم، والعلم أهم من الاسم، وقلب الكتاب أهم من عدد الألوان على سطحه. وأن تحمل في ذاتك علمًا حقيقيًّا وعقلًا يفيد الأمة وينجيها أهم من كل الشعارات بالعلم والثقافة التي قد تكتبها قبل أن تكتب اسمك.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.