"نحن في لذة لو عرفها الملوك لحاربونا عليها بالسيوف"... بهذه الكلمات التي تفيض بالتأمل العميق، بدأ الدكتور مصطفى محمود برنامجه الشهير "العلم والإيمان" الذي لم يكن مجرد برنامج تلفزيوني، بل كان بوابة للعقل والروح إلى عوالم الفلسفة والعلم والتأمل الديني العميق.
هذا الرجل لم يكن عالِمًا فحسب، بل كان رحالة فكرية خاض رحلة البحث عن الحقيقة بكل ما فيها من تخبط وتساؤلات، لكنه عاد من رحلته مؤمنًا زاهدًا متصوفًا، لم يهجر العلم، لكنه رآه في ضوء جديد، يتلاقى فيه العلم والإيمان في معادلة لا تصادم فيها ولا صراع.
الباحث عن اليقين بين الغزالي وديكارت
في دراستي للفلسفة في الثانوية العامة، تعلمت أن عددًا من المفكرين الكبار خاضوا تجربة الشك والبحث عن اليقين، ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي مرَّ بمرحلة من الشكوك الفلسفية قبل أن يجد راحته في التصوف، ورينيه ديكارت الذي قال مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" بعد رحلة من البحث عن اليقين العقلي.
لكن يوجد اسمٌ ثالثٌ ينتمي إلى هؤلاء الباحثين عن الحقيقة، وهو الدكتور مصطفى محمود الذي لم يسلك طريق الفلسفة وحدها، بل جمع بين التجريب العلمي، والتأمل الفلسفي، والبحث الديني، حتى وصل في النهاية إلى إيمان عميق لم يكن تقليديًّا، بل كان إيمانًا عن قناعة وتجربة.
ذكريات الطفولة.. بين رهبة الموسيقى وضحكات أمي
برنامج "العلم والإيمان" كان موعدًا مقدسًا لدى الملايين، لكنه لي ولأخي كان لحظة خوف طفولي غامض. تلك الموسيقى الشهيرة، بمزيجها العميق بين النغمة الكونية والتأمل العلمي، كانت تثير في داخلنا إحساسًا غريبًا، يدفع كلًّا منا للاختباء تحت السرير، وكأن عفريتًا سيظهر مع الدكتور مصطفى محمود وهو يتحدث عن أسرار الكون والمجرات!
بينما كانت ضحكات والدتي تملأ الغرفة، ساخرة من خوفي أنا وأخي، مؤكدة أن هذا البرنامج ليس عاديًّا، بل هو موعد ينتظره الناس بشغف، وكأنه نافذة مفتوحة على عالم آخر، عالم العلم ممزوجًا بروحانية الإيمان.
واليوم، وبعد مرور سنوات، أجد نفسي في انتظار أي "ريلز" جديدة لمقاطع الدكتور مصطفى محمود، لأشاركها على صفحتي في فيسبوك، التي اقتربت من مائة ألف متابع، وكأنني أعيد بث روحه من جديد في فضاء السوشيال ميديا، ليصل فكره إلى أجيال جديدة لم تعاصره.
الإلحاد واليقين.. وهل عمل مصطفى محمود حقًا مع الراقصات؟
يوجد من يروِّج لفكرة أن الدكتور مصطفى محمود "كان ملحدًا ثم تاب"، وهو تبسيط مخلٌّ لمسيرته الفكرية. مصطفى محمود لم يكن ملحدًا بالمعنى الحرفي، لكنه كان متمردًا فكريًّا، يسأل الأسئلة الكبرى دون خوف، ويبحث عن إجابات خارج القوالب الجاهزة، حتى وجد يقينه في النهاية.
لكن هذا لم يكن يعني أنه تخلى عن مبادئه، أو أنه "تاه" في عالم لقمة العيش، ليعمل في خلفية الراقصات كما زعمت بعض البرامج المعروفة على السوشيال ميديا. هذا تشويه متعمد لرجل عاش متصوفًا زاهدًا، بعيدًا عن أضواء الشهرة وأموال الإعلام، يكتفي بالقليل، ويتصدق بالكثير، وينشئ "مسجد ومستشفى مصطفى محمود" ليكون صدقة جارية على روحه.
أهم مؤلفات مصطفى محمود ومقتطفات منها
لم يكن مصطفى محمود مفكرًا نظريًّا فقط، بل كان كاتبًا أدبيًّا بارعًا، سطَّر أفكاره في عشرات الكتب، منها:
- "رحلتي من الشك إلى الإيمان" يروي فيها تجربته الفكرية العميقة. مقتطف "إن الله هو الضمان الوحيد لوجود المنطق والعقل والعدالة".
- "حوار مع صديقي الملحد" كتاب يناقش أبرز أسئلة الإلحاد والإيمان، مقتطف: "الإلحاد هو الحل السهل لكل إنسان لم يتعب نفسه في البحث."
- "رأيت الله" تجربة صوفية حول رحلة البحث عن الله.
- "القرآن كائن حي" كتاب يتناول القرآن برؤية علمية وفلسفية.
- "المستحيل" مجموعة قصصية تكشف عمق نظرته للحياة والإنسان.
- "الإسكندر الأكبر" رواية تاريخية تحكي سيرة القائد العظيم.
أول أجر حصل عليه في حياته
بدأ مصطفى محمود حياته الأدبية مبكرًا، وكان أول أجر تقاضاه عن كتابة قصة قصيرة هو 7 جنيهات فقط، مبلغ زهيد، لكنه كان كافيًّا ليشعل بداخله حلم الكتابة والبحث عن المعرفة، كما بدأ العمل في الصحافة، يكتب المقالات وينقل الأفكار، حتى أصبح اسمه واحدًا من ألمع أسماء الفكر العربي في القرن العشرين.
أول كتاب نشره ومبيعاته
أول كتاب أصدره مصطفى محمود كان بعنوان "الله والإنسان" عام 1955، وكان كتابًا جريئًا للغاية، حتى إنه أُثيرت حوله ضجة كبيرة، حتى مُنِع من النشر في البداية. وعلى الرغم من أنه لم يحقق مبيعات ضخمة فور صدوره، فإنه مع مرور الوقت أصبح من أكثر كتبه تأثيرًا، إذ تضمن أفكارًا فلسفية عميقة عن العلاقة بين الإنسان والخالق.
رحيله الصامت.. يوم مباراة مصر والجزائر
في 31 أكتوبر 2009، رحل الدكتور مصطفى محمود عن عمر ناهز 88 عامًا، في يوم لم يكن عاديًّا، إذ كانت أنظار الجميع مشدودة إلى مباراة مصر والجزائر، مباراة مصيرية في تصفيات كأس العالم، شغلت الرأي العام على نحو كامل، حتى لم يشعر كثيرون برحيل أحد أهم العقول العربية في العصر الحديث.
لكن مصطفى محمود لم يكن بحاجة إلى جنازة ضخمة، أو وداع إعلامي صارخ، فقد ترك خلفه إرثًا فكريًّا لا يزال حيًّا حتى اليوم، وبرنامجًا تلفزيونيًّا بدأ قبل أربعين عامًا، لكنه يعيش تفاصيل التطور التكنولوجي كأنه يتابع الحاضر بكل أحداثه.
ختامًا، رحل مصطفى محمود لكنه لم يمت.. كلما استمعت إلى مقطع من برنامجه، أو قرأت إحدى كلماته، أجد نفسي أهمس بداخلي: "الله.. على التعبير.. على المعلومة.. على قوة البصيرة!". فهو المفكر الذي جمع بين العقل والعاطفة، الفلسفة والدين، العلم والإيمان… ورحل بهدوء، تاركًا وراءه نورًا لا ينطفئ.
مقال رائع صديقتي
مصطفى محمود سيظل دائمًا حاضرًا بأفكاره وإرثه الفكري
رحم الله العلماء الذين يرحلون ويبقى أثرهم
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.